منى أبوزيد تكتب : ضمير مستتر تقديره هي..!
“السلوك الإنساني كله مختزل ومؤيقن في نصوص الأدب التي لا تغفل شيئاً”.. الكاتبة..!
(1)
في حديثها عن المناخ الذي صاحب مخاض روايتها الجديدة قالت الروائية التشيلية الفذة “إيزابيل الليندي”، إنها الرواية الأكثر صعوبة بين جميع أعمالها، لأنها تكشف تفاصيل حياة أكثر المقربين منها. الأمر الذي أثار حفيظة أفراد أسرتها، وقد سألها أحد أبنائها مغتاظاً عن السبب وراء إصرارها على نشر غسيلهم، فأجابته بقولها “إنها طبيعتي، طبيعة الكاتب، طبيعة العقرب”. ثم روت له حكاية العقرب الذي سأل ضفدعاً أن يحمله إلى الضفة الأخرى من النهر لأنه لا يستطيع السباحة، لكنه قام بلدغه في منتصف الطريق فغرقا معاً. وبينما كانا يغرقان اعتذر له قائلاً لا حيلة لي، إنها طبيعتي. حكاية الكاتب والعقرب تلك ظلت الفكرة الوحيدة التي لم ترق لي في كل ما قرأته لها..!
(2)
من أروع النصوص التي تناولت سطوة الجمال رواية “رادوبيس” لنجيب محفوظ، والتي لاقت رواجاً نقدياً لبعدها التاريخي، أو إسقاطها السياسي، أو لعلها تلك الإيماءات الفلسفية البديعة التي ناقشت – بهدوء – فكرة علم الجمال “معنى ومبنى”. فالبطلة امرأة بلا أسلحة تقريباً، بسيطة، ريفية، تتبع أهواءها. تزوجت من رجل هجرت لأجله أهلها، وحينما هجرها بدوره تكفَّل جمالها الأخاذ بكل شيء. وهكذا – وعن سبق إصرار وترصد ميلودرامي! – يصوَّر محفوظ بطلة الرواية امرأةً مقطوعة الأصل والفصل والعائل والسند، حتى يبرز لقارئه سلطة الجمال وسطوته الأكيدة ومقدراته الفذة على جذب بقية السُّلطَات “المال، المُلك، والفن”، دونما أي اكتراث أخلاقي يذكر لمبدأ فصل السلطات الذي نادى به فقهاء القانون، من أمثال مونتسكيو..!
(3)
لعل السبب الرئيس في نجاح أعمال كتاب عظماء مثل “فوكنر”، هامبسون”، و”همنجواي” يعود إلى استخدام هؤلاء الكتاب لتقنية “ضمير المتكلم”، حيث يتسلم راية لواء التدفق والتداعي – عبرها – سارد جذاب يبتدعه خيال المؤلف لاستمالة القارئ. والفرق كبير بين أن تقرأ جملة على غرار “ذهب فلان إلى السوق فرأى شابة جميلة”، وبين أخرى على غرار “ذهبتُ إلى السوق فخلبت لبِّي وصفعت روحي ملامح صبية فاتنة”، فالأخير يسرق انتباهك ويثير خيالك أكثر. لكن السرد بضمير المتكلم – الذي يعفي الكاتب من شبهة المسؤولية عن الآراء أو الأقوال التي ترد على لسان أبطاله – غالبًا ما يوقعه في شبهة أن يلتبس الأمر على القاريء فيمارس الإسقاط – إسقاط ما يجود به خيال الكاتب على واقعه الشخصي – وهو أمر يكثر جداً عندما تكون الكاتبة “أنثى”..!
(4)
جاء في الأساطير الإغريقية أن “سيزيف” الذي كان ملكاً ومحارباً بارعاً وذكياً قد ارتكب من الأفعال ما أثار غضب آلهة الأوليمب فحكمت عليه بأقسى أنواع العقاب التي يمكن أن تخطر لآلهة أسطورية على بال، أجبره الإله “زيوس” على أن يُدحرج صخرة عملاقة إلى قمة جبل ثم ما إن يصل بتلك الصخرة إلى القمة حتى تنحدر الصخرة وتسقط عند سفح الجبل فيعود “سيزيف” إلى دحرجة الصخرة مرة أخرى إلى قمة الجبل، وهكذا. لأجل ذلك اعتُبر “سيزيف” البطل الأسطوري الوحيد الذي يجتهد لإنجاز مهمة شاقة يعلم علم اليقين أنها سوف تكلَّل بالفشل. وليس أشقى من سيزيف سوى الكاتبة “الأنثى” التي تدحرج صخرة التفريق بين الخاص والعام من السفح إلى القمة ومن القمة إلى السفح، وهي تعلم علم اليقين أن ذلك لن يعفيها من هواية ذميمة عند بعض القراء الرجال “هواية إسقاط ما تكتب عنه على ما تشتكي منه”..!
صحيفة الصيحة