حيدر المكاشفي

حيدر المكاشفي يكتب: الخارجية والمفهوم الكلاسيكي للسيادة الوطنية

أصدرت وزارة الخارجية يوم الخميس الماضي بياناً قالت أنه بشأن تدخل بعض السفراء لمطالبتهم بالإفراج عن متهمين قيد المحاكمة والتحقيق في بلاغات جنائية تتعلق بخيانة الأمانة، وقد ورد في البيان بالنص( تود وزارة الخارجية أن توضح بأنها قد لاحظت بعميق الدهشة والإستغراب تغريدات تفتقر إلي اللياقة والحصافة الدبلوماسية صدرت مؤخراً عن بعض السفراء المعتمدين لدي السودان علي خلفية إعتقال إثنين من المواطنين السودانيين بموجب أحكام القوانين الوطنية السارية، مما يعد تدخلا سافراً في الشؤون الداخلية للسودان! ومنافياً للأعراف والممارسات الدبلوماسية) والمحت الى انه ربما يصدر قرار بطردهم.. اذن خارجيتنا (الفتية) تتحدث عن السيادة الوطنية بمفهومها التقليدي الكلاسيكي، ولا أدري ان كانت لا تعرف التطور والتغير الذي طرأ على مفهوم السيادة في عالم اليوم أو انها تتعمد ذلك لشئ في نفس (الانقلاب)، واذكر أنني أول ما علمت عن هذا التطور والتغير، كان على لسان د. بطرس غالي، السكرتير العام الأسبق للأمم المتحدة، بقوله إن زمان السيادة المطلقة قد ولى، مما يحتم التوازن بين ضرورات الحكم الراشد ومتطلبات عالم يعزِز من الاعتماد المتبادل، كما قال أيضا في كلمة أخرى، إن المجتمع الدَولي يوكل إلى الدولة حماية الأفراد، فإن فشلت لزمه أن يحل محلها.. وعليه ان كانت خارجيتنا تعلم أو لا تعلم فان الاتجاه الغالب في العصر الحديث بحسب الخبراء والباحثين في مجالي العلاقات الدولية والقانون الدولي، قد نحا نحو ضرورة الارتقاء بعلاقات السياسة الدَاخلية إلى آفاق أكثر ديموقراطية وإنسانية، وفتح العلاقات الدولية، ومن ثم القانون الدولي، على مصالح الأفراد والشعوب، واحترام القانون الدولي الإنساني، وحقوق الإنسان، والديموقراطية، والحكم الرَاشد، والاهتمام بقضايا الهجرة، واللاجئين، والشفافية، والتنمية، وحماية البيئة، ومحاربة الفقر، والفساد، والمخدرات، والإيدز، وغسيل الأموال، والاتجار بالبشر، أو ما يعرف بـقضايا السياسات الدنيا، بنفس درجة الاهتمام بقضايا السياسات العليا، كالحرب، والسلام، والإرهاب، وامتلاك أسلحة الدمار الشامل، وما إليها. وكان لا بد أن تنسحب تلك التطورات على المفهوم التقليدي للسيادة الوطنية الذي ارتقى بدوره إلى طور أعلى، تبعا لنشأة وتطور تلك المفاهيم والقضايا، ووسائط الاتصال الحديثة، والأدوار الأكبر للقوى والمنظمات الديموقراطية، وجماعات الضغط المدنية؛ فلم تعد السيادة تعني ذلك الحق المطلق للدولة على مصائر شعبها، كما كان الأمر في السابق، بل أضحت علاقة الدولة بمواطنيها لا تقف عند أن تكون محض شأن داخلي في ذات اللحظة التي تغمط فيها حقوقهم، وهكذا تراجع المفهوم التقليدي للسيادة المطلقة، وانفتح ليشمل حقوق الأفراد، بمراقبة دوليَة، وباختصار أضحت الدَولة ملزمة بحماية حقوق مواطنيها فإن فشلت، تحتم على المجتمع الدَولي إجبارها على ذلك. وأصبح التدخل لأسباب إنسانية، بصرف النظر عن استناده أو عدم استناده إلى اتفاق مخصوص، يكتسب مشروعيته من أن احترام حقوق الإنسان بات التزاما دوليا راسخا، بموجب العهود والمواثيق والعرف، وعليه لم تعد الدَولة الحديثة تملك حق التصرف المطلق في حقوق مواطنيها، وإنما صار لزاما عليها الموازنة بين حقوقها وحقوقهم، وما جاء في بيان الخارجية المذكور يمثل ردة وارتداد الى مفهوم السيادة التقليدي الذي يضع الشعوب والأفراد تحت رحمة الأنظمة، وغالبا ما تستخدم هذا المفهوم كفزَاعة باسم الوطنية، فتستغل عواطف البسطاء في حشد العداء ضد المفهوم الحديث، فالسيادة الوطنية لا تتحقق بالخطب الحماسية ولا بالبيانات ولا بالتهريج والشعارات الجوفاء، وإنما بمحاربة التهميش، ورفع ظلامات المهمشين، وتكريس حقوق الإنسان، وإرساء دعائم السلام، والوحدة، والدِيموقراطية، وخلق المناخ الملائم لتأمين جبهة داخلية متماسكة، بما في ذلك إفشاء أسس العدالة، وتطبيق مبادئ المساواة أمام القانون، والحد من فرص الإفلات من العقاب، إضافة لإقامة علاقات خارجية متوازنة، وإغلاق كل الثغرات التي تتسرَب منها التدخلات الأجنبية..فهل يا ترى راعى الانقلابيون ذلك..

صحيفة الجريدة