الأسماك .. ثروة يتهددها الإهمال
تعتبر الأسماك من الموارد الطبيعية التي لم تستغل حتى الآن، ويملك السودان موارد مائية ضخمة، كان يمكن أن ترفد الخزينة العامة، وخزائن الولايات من إنتاج الأسماك، بمبالغ مقدرة، وتسهم في الاقتصاد القومي، لكن هذا القطاع ظل مهملاً لعقود طويلة، بعد أن كان يساهم بحاجة البلاد من الشاي والبن (مقايضة) من كينيا وإثيوبيا وأوغندا، في الخمسينيات والستينيات وأوائل السبعينيات.. لكن هذا القطاع أهمل تماما في العقود الأربعة الأخيرة، وهو يحتاج إلى خطة إسترتيجية جديدة.
وقال د.الصادق حقار، المحاضر بكلية الموارد الطبيعية، مدرسة الأسماك بجامعة بحري، إن البلاد بعد انفصال الجنوب، فقدت أكثر من (65%) من إنتاج الأسماك، ولم تلتفت الحكومة إلى مستقبل الثروة السمكية، فقط مجهودات فردية هنا وهناك، خاصة في الاستزراع السمكي، لكنها تظل مجهودات فردية لا تسهم في الاقتصاد، وأشار إلى معوقات حقيقية تواجه انطلاق قطاع الأسماك، لأنه مهمل بصورة عامة، وأبرز المعوقات شح الإمكانات، وغياب تطبيق القوانين المنظمة لعملية الصيد، والتدريب التطبيقي، ومؤسسات التدريب الداعمة للبرنامج الاقتصادي، ووزارة الثروة الحيوانية معزولة عن الواقع الحقيقي للأسماك، خاصة بعد فرض الحكم الاتحادي، وأصبح لكل ولاية دستورها وقوانينها ولوائحها، مع أن الأسماك مورد طبيعي كان يجب أن يدار مركزياً، وتسري قوانين المركز، وتهيمن على القوانين الولائية.
وأوضح أن وزارة الثرورة الحيوانية طغى اهتمامها باللحوم الحمراء، لأنها ذات عائد سريع ولحظي، أما قطاع الأسماك فعائداته بطيئة، وما يكشف ويؤكد هذا الإهمال كنموذج، ما حدث في السدود الجديدة التي أهملت قطاع الأسماك كصورة من صور الموارد المتاحة، ولا توجد محطات بحثية مؤهلة لدراسة موارد الخزانات، وأقرب مثال على ذلك، سد مروي. كذلك لا توجد استمرارية في الدراسات، لقراءة الواقع الحقيقي، ولا يوجد اهتمام حتى بهجرة الأسماك كسلوك طبيعي وبيئي لها.
ومن المعوقات أيضاً، مدخلات الإنتاج، وهي بالعملة الصعبة، مثل الشباك والقوارب، وكلها عالية التكلفة، ولا يوجد مصنع شباك أو حبال بمواصفات فنية عالمية، أو قوارب صيد جيدة، إلا لدى قلة من الصيادين.. كذلك مدخلات التشغيل والنقل والطرق، فهي مكلفة وتعيق وصول الأسماك إلى الأسماك، لذلك هنالك فاقد كبير من الأسماك.
الاستزراع السمكي
وقال د. حقار إن التغلب على هذه المعوقات لينطلق قطاع الأسماك إلى الأمام، ولأنه قطاع واعد، لابد أن يجد الدعم في حده الأدنى، لأنه من الممكن أن يكون ركيزة مهمة من ركائز الاقتصاد الوطني، إذا وجد الدعم اللازم، ولو كان القطاع موحداً تحت مظلة مثل هيئة تدير كل القطاع أو وزارة اتحادية، لكن الهيئة تتعتبر هي الخيار الأنسب لتنمية قطاع الأسماك حتى تضع القوانين واللوائح، مثلاً السعودية لديها الجمعية العامه للأسماك، وفي مصر هيئة تنمية الثروة السمكية، بذلك نضمن استمرارية إنتاج الأسماك برؤية واضحة والاستفادة من المصدر والمنتج.
ينبه د. حقار إلى أن أنهار البلاد زاخرة ومتنوعة وهنالك (١٤٥) نوعاً من الأسماك من (٤-٥) أنواع صالحة للاستزراع، وما يزيد عن (٣٠-٤٠) من الانواع تجارية ، وهناك (٦-٧) جاهزة للتصنيع (الفسيخ ــ الكجيك) من البحيرات الصناعية والروافد والخيران الموسمية غير أمطار المستنقعات، والمياه الراجعة من مياه المصانع ومصانع السكر، وترع المشاريع الزراعية في الجزيرة والرهد والإعاشة والمشاريع الخاصة في سد مروي ودال، كل هذه المشروعات فيها مخزون ومورد للأسماك هي موارد متاحة لقطاع الأسماك يمكن استغلالها، هذا على مستوى المياه العذبة، أما المياه المالحة فلم تطرق بعد في ساحل البحر الأحمر وهي غير مستغلة، لأن الصيد الحر كله تقليدي، وما لم نتجه للصيد الصناعي، فلن نحقق عائداً كبيراً يمكن أن يدخل في الناتج القومي الإجمالي، لأن استغلال الموارد مؤشر لدعم الاقتصاد.
الحفاظ على المخزون
وقال د.حقار إن إنتاج نوعية جيدة من الاستزراع، واحد من الأنشطة المهمة، ولها دور كبير في المحافظة على مخزون الأسماك الطبيعي، لذلك لابد من أن يكون هناك بدائل، لأن المواسم تختلف، ففي موسم التوالد يجب ألا يكون هنالك صيد، وعلى السلطات أن تحدد عدد الصيادين في المسطحات المائية التي تعتبر مفرخات طبيعية للأسماك، مثل الخيران الهادئة ورؤوس الجزر.. وهذا أحد أهداف الاستزراع السمكي، وكذلك هناك بعض المناطق التي لا توجد فيها مصادر طبيعية للمياه، مثل المناطق النائية في كردفان ودارفور وطوكر، والمناطق المتاخمة للبحر الأحمر ليس فيها موارد طبيعية ومصادر مياه عذبة، لذلك لابد من الاستزراع حتى يكون واحداً من المصادر التي توفر أسماكاً للاستهلاك المحلي، كذلك الاستزراع ينتج نوعية جيدة بحجم ووزن واحد، حسب الكميات المطلوبة، والاستزراع واحد من التقانات التي تحفظ الأسماك، وترفع الضغط عن الصيد الطبيعي، وتعتبر مسطحات المياه مصدراً طبيعياً للاستزراع لإنتاج الأسماك في غير موسمها، ومناطق غير مناطقها، وبإنتاج وفير.
تجارب دون الطموح
وأشار د. الصادق حقار إلى أن تجارب الاستزراع السمكي دون الطموح، على الرغم من أنها بدأت كتجربة حقيقية في العام ١٩٥٢م، لكن حتى الآن لا توجد بنيات تحتية، وليس هناك خطط من الدولة، وما يوجد في مجلدات التخطيط الحكومي، مجرد أوراق بلا تتفيذ، فمثلاً الجارة مصر، وبالرغم من أنها بدأت بعدنا في استزراع البلطي، بتجارب مشابهة في بعض الظروف، وأفضلية ظروفنا المناخية لاستزراع الاسماك، ومصر بها فصل الشتاء طويل، وأجواء باردة، ونحن لدينا المياه الدافئة والشمس والأرض المسطحة، مع ذلك هي تتفوق علينا في الإنتاج بمراحل بعيدة، ولا يمكن أن نقارن إنتاجنا وتقاناتنا بما لديها، لأنه من حيث البنيات التحتية، مصر لديها ما لا يقل عن (٢٥) مصنعاً متخصصاً للأعلاف يتبع للقطاع الحكومي، أما القطاع الخاص، فيمتلك مصانع يصعب حصرها.. ونحن لا يوجد لدينا حتى ولو مصنع حكومي واحد ينتج أعلافاً.. والقطاع الخاص لديه مصنعان اثنان فقط، كذلك في مصر توجد أكثر من (30) مفرخاً حكومياً، يسلم المنتجين أصبعيات البلطي بأسعار زهيدة.. وبالسودان لا يوجد حتى مفرخ واحد. وهناك مفرخ منذ عشر سنوات ما يزال حبيس الصناديق والإدراج، ولا توجد بحوث تطبيقية ذات قيمة، لأن الحكومة غير راغبة في مد الباحثين بالمال اللازم لإنتاج تقانات متوائمة مع مناخاتنا وقدراتنا والإنتاج يحتاج إلى أسس فنية، ومال وفير، والحكومات المتعاقبة لا توفرها، وهذا ما أقعد قطاع الأسماك منذ الاستقلال وحتى اليوم.
مشاكل حقيقية
ترى صاحبة مزرعة للأقفاص العائمة، خريجة جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا مدرسة الأسماك، ملاذ حسن جبورة، أن المشاكل التي تقعد بقطاع الأسماك، انضمام أعداد كبيرة من خريجي التخصصات الأخرى إلى هذا القطاع، فقد تخرجت أول دفعة من تخصص الأسماك، سنة ١٩٨٢، من جامعة جوبا، ثم توالت مدارس الأسماك بالجامعات، لكنها في معظمها غير متخصصة، مثل تخصصات الإنتاج الحيواني، العلوم البيطرية، وعلوم البحار وغيرها من التخصصات.. وأغلب الوظائف يعمل بها غير متخصصين من خريجي الأسماك، حتى الدرجات العليا، وهذا صراع مهني طويل أقعد القطاع، ويحتاج إلى قرار إداري ومهني سليم، ليعطي كل ذي حق حقه ليس من العدل في شيء، أن يكون لديك من يحمل التخصص من البكلاريوس حتى الدكتوراة في تخصص معين، ثم تأتي بآخرين لا علاقة لهم بالمجال
وتضيف جبورة، وهي شقت طريقها للعمل الخاص وعملت في مجال تربية الأسماك في الأقفاص العائمة، والإشراف على بعض المزارع الترابية في الخرطوم والنيل الأبيض.
وأشارت إلى أن تقنية تربية الأسماك في الأقفاص العائمة، جديدة في السودان بعض الشيء، لكنها أحبتها جداً، ولذلك نالت درجة الماجستير في هذه التقنية، وتعتقد أنه في ظل الظروف الراهنة لقطاع الأسماك، تعتبر تربية الأسماك في أقفاص، حلاً منطقياً ومربحاً جداً. وقالت: “مصادر المياه (العذبة والمالحة) في السودان، غنية جداً بالأسماك بأنواعها المختلفه، لكنها مهملة، ولا توجد مقومات إنتاج، والاستزراع السمكي يخفف الضغط على الموارد الطبيعية للأسماك، ويساعد على جعل المخزون الطبيعي متوازناً ودائماً.
معوقات الاستزراع
وقالت جبورة إن هناك الكثير من المعوقات التي تواجه الاستزراع السمكي أبرزها الزيادات المتكررة في اسعار مواد تصنيع العلف، بالإضافة للسوق الذي تحكمه فئة معينة من التجار والسماسرة، لذلك نتجه لخلق أسواق لبيع الأسماك مباشرة للمواطن، وزيادة الصادر من الأسماك، وحتى نجعل من قطاع الأسماك مورداً يزيد من الدخل القومي، لابد من ضخ أموال معتبرة لإجراء البحوث في كل مجالات قطاع الأسماك الذي تتوفر له خبرات نوعية من المتخصصين والباحثين الذين يحبون تخصصهم، ويعملون بجد لتطوير القطاع، لكن ينقصهَم فقط المعينات المالية، والتكنولوجيا الحديثة في المعامل لتنفيذ أبحاثهم على الواقع.
النيل الأبيض: سوسن محمدعثمان
صحيفة السوداني