منى ابوزيد

منى أبوزيد تكتب : وليمة الورد..!

“هنالك حقائق عليك أن تنمو فيها”.. إتش جي ويلز..!
المكان: الخرطوم التي يحدث فيها كل شيء، الزمان: النصف الثاني من التسعينات. عندما كان عامنا الدراسي الثاني بالجامعة يودع نصفه الأول، وذات نهارٍ محايد، استأجرنا صديقتاي وأنا عربة أجرة لتُقلَّنا من “داخلية جمعية المغتربين” حيث كنا نسكن إلى “مشتل زكي” الذي كان ينفرد بإنتاج باقات الورود الطازجة. حينها لم تكن الخرطوم تعج بمحلات بيع الورد المنتشرة الآن. كنا ذاهبين لعيادة صديقة مريضة، ولأننا من الذين عاشوا وترعرعوا خارج البلد لم تكن معرفتنا بالطرق والشوارع كافية، الأمر الذي أثار تذمر السائق العجوز:
– إنتو ماشين ياتو بيت هنا بالضبط..؟!
ما بيت يا عمُّو، مشتل..؟! –
– عاوزين تشتروا زرع..؟!
لا، عاوزين نشتري ورد، عندنا صاحبتنا عيانة وماشين نزورها..! –
– ورد شنو، هسه كان اشتريتو ليها كيسين فاكهة ما كان أخير ليها..!
في طريق العودة وبينما كان السائق العجوز يرمقنا بامتعاض – من خلال مرآة السيارة – كنا نتأمل بابتسامات طفولية باقة الورد البديعة تلك وقطرات الندى التي كانت تتناثر على بتلاتها كحبات اللؤلؤ. كانت صديقتنا تلك تقطن في الجانب الآخر من شارع المعرض الذي يمتد بين منطقة بري وحي جاردن سيتي، وكأنه يُمهِّد بامتداده ذاك للتطرُّف الواضح بين مظهر البيوت العادية الُمتراصَّة على مرمى حجر منه وتلك البيوت ذات الأناقة الغامضة المترامية على الجانب الآخر..!
على الرغم من قوة المودة التي كانت تربطنا بتلك الصديقة لم يكن لدينا علمٌ كافٍ بحال أسرتها، ولم يحدث أن ذهبنا لزيارتها قط، هي التي كانت تزورنا حيث نسكن، تستعير منِّي بعض الكتب ثم تعيدها بانتظام، ولا أظن أن فتاةً في مثل أعمارنا وقتها قد تعقِّب على كاتبٍ أو كتاب بمثل ما كانت تفعل بعد قراءتها لهمنجواي وفولكنر وتولستوي وفلوبير..!
إنما لم يحدث قط أن دعتنا لزيارتها ولم يحدث أن أبدينا رغبة بذلك. إلى أن جاء يوم افتقدنا فيه زياراتها بعد غياب عدة أيام. سألنا عنها صديقتها التي كانت تعمل في محل اتصالات قريب فأخبرتنا بمرضها، وقررنا الذهاب للاطمئنان عليها..!
كان المنزل متواضعاً ينم عن فقر مدقع الأمر الذي فاجأنا كثيراً، لكننا وبرعونة الذين يعيشون على هامش الواقع ذهبنا لعيادتها محملين بالورود ولم نفكر قط في احتمال حاجتها للمال. لعله صغر السن أو لعلها قلة المعاصرة، أو ربما لأنها لم تشعرنا قط بأنها فقيرة. يومها تمنينا لها عاجل الشفاء ثم خرجنا مطرقين يغمرنا الخجل وتركنا باقتنا تلك بورودها المكدسة بغباء على طاولةٍ قريبة بجانب سريرها المتواضع..!
وعندما استدركنا الأمر في اليوم التالي وحاولنا أن نساعدها ببعض المال، نظرت صديقتنا الأبِيَّة بازدراء إلى المظروف الملون الذي كانت عليه صورة دبدوب – يطير في الهواء وهو يحمل بالوناً ويبتسم في غباء “يشبه غباءنا” – قبل أن تعيده إلينا برفضٍ حزينٍ وحاسم. ومنذ يوم وليمة الورد تلك – والموقف الذي تلاها – افتقدنا تواتر زيارات صديقتنا النبيلة، ولم نعد نراها كثيراً..!
بعد مرور بضع سنوات قابلت صديقتنا الجليلة تلك مصادفةً في أحد المطارات، وقادتنا “الونسة” إلى تفاصيل ذلك اليوم الكئيب، فحدثتها عن امتعاض سائق التاكسي من باقة الورد واقتراحه أكياس الفاكهة كهدية أكثر واقعية. عندها فوجئتُ بها وهي تخبرني كيف أنهم في ذلك اليوم لم يكونوا يملكون قُوت يومهم بالمعنى الحرفي للجملة، ثم كيف منعها التعفف من قبول ذلك المال الذي جمعناه لأجلها. كانت تقول بذلك – وهي تضحك – بقناعةٍ وسماحةِ نفسٍ آلمتني وانتزعت مني دمعةً خجلى..!
ما أدرانا وقتها بأن العالم أكثر تعقيداً وقبحاً مما كنا نظن؟. اليوم – وبعد أن ودَّعتْ مُعظمنا تدليل الآباء غير المشروط إلى مشاركة الأزواج أعباء الحياة وأتراحها – أدركنا كم كانت باقة الورد تلك خياراً ساذجاً..!

من الإرشيف

صحيفة الصيحة