صلاح الدين عووضة

صلاح الدين عووضة يكتب : دسي ليمونا!!


وعنواننا أعجمي..

ثم هو نفسه عنوانٌ لأغنية..

ومفردة (دسي) نوبية تعني أخضر اللون..

والنوبيون يقرنون الجمال بالخضرة… والسمرة؛ لا البياض..

أسمر اللونا… ويا سمارة… و ووسمارنا… وسمرا منديل هدية تودنقا..

ودسي ليمونا من أغاني التراث النوبي القديم..

هي نوبية مشربة بالذكريات..

ذكريات زمان… ومكان… ووجدان… وإنسان… وادي حلفا..

ومن هذه الذكريات ما وثقه – شعراً – عبده سري..

وثقه شعراً بعاميتنا السودانية وهو الذي يصيغ شعراً عربياً مبيناً..

فهو يجيد لغة الضاد بأحسن من أهلها؛ كحال النوبيين..

وكحال سيبويه الأعجمي؛ واضع قواعد النحو..

أو كحال مثقفيهم رغم إن أهلها هؤلاء – في نظرهم – هم الناطقون بغيرها..

فهم يعتزون بلغة الأصل… والحضارة… والتاريخ..

ورغم إجادته العربية فإن سري يغلب عليه – أحياناً – (طبع) اللسان النوبي..

اللسان الذي ما اعتاد على أدوات تذكيرٍ وتأنيث..

ومن ثم يقول في سياق تعريبه: وين قماري الشوق الليلة وين عشعش؟..

وذلك قبل مقطع: وين ظلال أرقين وين نخيل عنقش؟..

فنبهته إلى أن يضع كلمة قمري محل قماري ليستقيم الشطر لغوياً..

ولكن ديوانه (إلى حبيبتي) كان قد طُبع..

ورغم رقة سري الشاعرية كان ذا غلظة لفظية حين يتكلم في السياسة..

غلظة مبعثها كراهيته لنظام عبود جراء التهجير..

فهو جذوره في أشكيت الأصل؛ لا التي بحلفا الجديدة ذات الرقم (13)..

وبسببه كره الأنظمة العسكرية في السودان كافة..

بل في العالم الثالث كله؛ بما أنها تفعل ما تريد دونما رجوع إلى الشعب..

تفعله حتى وإن كان ما تريده هذا ضد إرادة الشعب..

وعشقته واحدة – أواخر عهد نميري – كانت تعشق شعره حد الثمالة..

فهل عشقته لشعره؟… أم عشقت شعره من أجله؟..

لا يهم – بالنسبة له – بما أنه لم يبادلها عشقاً بعشق على أية حال..

لم يعشقها رغم جمالها… ورغم عشقه للجمال..

والسبب في ذلك عاملان اثنان..

إنها – أولاً – بيضاء؛ وليست دسي ليمونا..

وثانياً؛ إنها كانت منضوية تحت لواء أحد تنظيمات (مايو) الشبابية..

وذات مساء حضرت منتداه الشعري..

وطلبت منه – بأدبٍ شديد – سماع قصيدة بعينها..

قصيدة يقول مطلعها: استبدي واخلفي ما شيتِ وعدي..

فأنشدها وأرسل في خاتمتها رسالة مبطنة لها مع إشارة من أصبعه..

خاتمة نصها: اذهبي عني بعيداً آخر الكلمات عندي..

ثم (ذهب) هو إلى أشكيت لتكون (آخر) كلماته تدريساً في ثانوية البنات..

و(آخر) ما أسمعه عنه مُهاتفة من صديقٍ بحلفا..

وكانت قبل سنوات؛ ولكني تذكّرت ذهابه المُؤلم هذا البارحة حين وقع نظري على ديوانه..

ديوان (كلمات إلى حبيبتي)؛ وبه إهداء رقيق إلى شخصي..

تذكّرته للمرة المئة… أو الألف… أو المليون..

لقد (ذهب) عنا سري..

ذهب عن أشكيت… وعن حلفا… وعن دنياي… وعن عاشقة شعره – أو ذاته – تلك..

ذهب عن الدنيا بأسرها..

وذهب وضعٌ سياسي طالما تمنى ذهابه..

ولن تطول – أكثر – حيرة قماري الشوق؛ فستعرف أين تعشعش..

وأين تسكب دمعها كلُّ حسناء..

ودسي ليمونا!!.

صحيفة الصيحة