العطش يحاصر العاصمة السودانية وسط أنهارها الثلاثة
تعيش العاصمة السودانية الخرطوم منذ فترة ليست بالقصيرة موجة من العطش بسبب الشح الحاد في مياه الشرب إثر انقطاع إمدادات المياه عن كثير من الأحياء والمنازل، ما تسبب في معاناة قاسية للمواطنين الذين اعتبروا أن الوضع تجاوز كل حدود الاحتمال، بخاصة أن الأزمة التي ظلت ممتدة منذ شهر رمضان الماضي، زادها سوءاً تزامنها مع ارتفاع كبير في درجات الحرارة فاقت في بعض الأحيان 46 درجة مئوية في معظم أنحاء البلاد، نتيجة تعامد الشمس هذه الأيام مع خط الاستواء.
القريب البعيد
بين حصار شح المياه ودرجة الحرارة المرتفعة، يتندر السودانيون من مفارقة العطش الذي يجتاح الخرطوم على الرغم من احتضانها ثلاثة من أعذب أنهر العالم، هي “النيل الأزرق”، و”النيل الأبيض”، المقترنان بنهر النيل، والتي تشق مياهها العذبة طريقها وسط مزارع العاصمة السودانية وأحيائها. وكثيراً ما يسخر سكان العاصمة من كون الماء بات هو “القريب البعيد” وكأنهم يستحضرون مفارقة العشق والشوق للشاعر الجاهلي، طرفة بن العبد، في تجسيد بعض من محنتهم مع المياه، الحاضرة الغائبة، إذ يقول:
“وأمرُّ ما ألقاهُ من ألَـمِ الهوى، قُرْب الحبيبِ وما إليه وصولُ
كالعِيْسِ في البيداءِ يَقتلها الظمأ والماءُ فوقَ ظهورِها محمولُ”
وشكا مواطنو عدد من أحياء الخرطوم، من استفحال مشكلة انقطاع الإمداد المائي، منتقدين عجز “هيئة المياه” التابعة لولاية الخرطوم عن إيجاد حلول مستدامة للأزمة، التي تأثرت بالانقطاع التام للمياه في معظم مدن وأحياء الولاية في أم درمان القديمة وضواحيها والثورات شمالاً والفتيحاب جنوباً مروراً بأحياء الوسط والغرب حتى مدينة أم بدة. وتزداد معاناة السكان مع محدودية وسائل نقل وتوزيع الماء إلى المناطق المتضررة بواسطة “هيئة المياه” كجهة اختصاص، كنوع من الحلول الإسعافية في مثل هذه الحالات الطارئة، بخاصة بعد أن صارت رسوم الخدمة تُدفع مقدماً بربط الفاتورة الشهرية للكهرباء والمياه معاً.
شكوى ومعاناة
يشكو المواطن محمد أحمد حسين، من منطقة “أم درمان أبو سعد – المربعات”، من انقطاع المياه عن منطقتهم منذ شهرين تقريباً، تكبدوا خلالها إلى جانب العطش، مبالغ كبيرة لشراء المياه يومياً، ووصل سعر برميل الماء في بعض الأحيان إلى 4000 جنيه سوداني (7 دولارات أميركية)، على الرغم من أنهم سددوا الرسوم للدولة مُقدَّماً. ويضيف حسين، “ظلت المعاناة مع المياه متفاقمة من دون إيجاد حلول جذرية لهذه المشكلة المتكررة مع كل صيف”، مطالباً الجهات العليا في الدولة بمحاسبة أو إقالة المسؤولين عن هذا العجز، واسترداد الرسوم المُسدَّدة مقدماً من دون الحصول على الخدمة.
وعلى الرغم من أن التدخلات التي قامت بها بعض المحليات بتوزيع المياه بواسطة “التناكر” (صهاريج محملة على عربات كبيرة)، أدّت إلى انفراج نسبي في بعض المناطق وتراجع سعر برميل المياه من 4000 إلى 2000 جنيه سوداني (من 7 إلى 3.5 دولار)، لكن لا تزال مناطق عدة تواجه مشكلة كبيرة في عدم توفر المياه.
مبررات وأسباب
في السياق، كشف المدير العام لـ”هيئة مياه ولاية الخرطوم”، محمد علي العجب، أن “العجز اليومي في إنتاج مياه الشرب يُقدَّر بنحو 200 مليون متر مكعب”. وربط حل الأزمة بمعالجة الأوضاع في محطات التنقية الرئيسة التي تزوّد الخرطوم بمياه الشرب، وأهمها محطات منطقة الصالحة، بسعة 300 ألف متر مكعب، وتغطي جنوب أم درمان، ومحطة “الخوجلاب” التي تجري دراسة بخصوصها لإنتاج 300 ألف متر مكعب، إضافة إلى محطة “سوبا” (100 ألف متر مكعب) لتغطية مناطق جنوب الخرطوم.
وعزا العجب الأسباب الرئيسة للأزمة وتكررها سنوياً في فصل الصيف، إلى “حاجة عدد من محطات تنقية المياه والآبار الارتوازية إلى عمليات التأهيل والصيانة، فضلاً عن استعمال أجهزة التكييف المائية وموتورات سحب المياه بواسطة المواطنين نتيجة الارتفاع الكبير في درجات الحرارة، ما يؤثر على المشتركين الآخرين بصور واضحة”.
ولفت مدير مياه الخرطوم، إلى “الحاجة لحفر آبار جديدة وتأهيل وصيانة المعطلة منها، إذ تحتاج نحو 45 بئراً إلى النظافة وإعادة التأهيل، فضلاً عن تركيب مضخات جديدة، من أجل تغطية حاجة بعض محليات الولاية التي ما زالت تعاني نقص المياه”، مشيراً إلى أن “الهيئة تعمل جاهدة على معالجة مشاكل المياه بالولاية من خلال حفر آبار جديدة، وإنشاء مزيد من المحطات التنقية الجديدة على مجرى النيل”.
وأوضح العجب أن “الولاية تعتمد على مصدرين رئيسين للمياه، الأول هو مصادر نيلية قوامها 13 محطة تنقية متفاوتة السعات، تبلغ جملة إنتاجيتها حوالي 950 ألف متر مكعب خلال اليوم، بالإضافة إلى 7 محطات ضغط تعمل على توزيع المياه على نطاق العاصمة. أما المصدر الثاني فهو الآبار الارتوازية، البالغ عددها 1400 بئراً، وتضخ مياهها داخل شبكة مختلطة مع مياه النيل، وتمد أطراف الولاية بنحو 750 ألف متر مكعب يومياً.
حماية المستهلك تطالب
بدورها، طالبت “الجمعية السودانية لحماية المستهلك”، بفصل فاتورة المياه عن الكهرباء، “لأن المواطن بإمكانه أن يعيش لفترة من دون كهرباء، لكنه من الصعب أن يعيش يوماً واحداً من دون مياه في منزله”.
واعتبر ياسر ميرغني، الأمين العام للجمعية، أنه “من غير المعقول أن تُقدَّر فاتورة المياه بشكل جزافي من دون حساب حقيقي للاستهلاك، بحيث لا تفرّق بين المستهلك الذي يقيم في شقة صغيرة وآخر بمنزل به حدائق وحوض سباحة، فيدفعان نفس قيمة الاستهلاك الشهري للمياه، الأمر الذي يفتقر إلى أي من معايير العدالة”.
وشدد ميرغني على “ضرورة العودة إلى نظام العداد القديم الذي يقوم بحساب الاستهلاك والتكلفة الحقيقية للمياه وفق الكمية المستخدمة بحيث تتحقق العدالة المطلوبة”، مشيراً إلى أن “المواطنين عانوا أشد المعاناة من انقطاع المياه خلال شهر رمضان الكريم في وقت بات شراء المياه يشكل عبئاً إضافياً مرهقاً على المستهلكين”.
في السياق، كشف عمر خضر خلف الله، الباحث في مجال المياه، عن “وجود ثلاث مشكلات رئيسة تقف وراء تفاقم مشكلة العطش وشح مياه الشرب بالعاصمة السودانية، وأولها عدم توفر التمويل اللازم لتنفيذ المشروعات اللازمة”.
غياب الخطط والمال
وبيّن خلف الله أنه “سبق وأُجريت دراسات عدة لإنشاء مشروعات في مجال محطات وشبكات مياه الشرب، وتنفيذ أكثر من محطة تنقية، وصل بعضها إلى مرحلة العطاءات ودفع مقدَم التعاقد للمقاولين، لكن للأسف كان البطء في الوفاء بالالتزامات المالية لمدة زمنية أطول من اللازم يجعل المقاولين يطالبون بفروقات الأسعار نتيجة ذلك التأخير”.
أما المشكلة الثانية، بحسب خلف الله، فتتمثل “في وجود أكثر من ألف بئر للمياه بولاية الخرطوم على الرغم من أن الآبار تُعتبر في الأصل حلولاً مؤقتة فرضها عدم التمكن من إنشاء محطات تنقية نيلية، ومعروف عنها أنها كثيرة الأعطال مع مواجهتها مشكلة انقطاع التيار الكهربائي لساعات طويلة بسبب برمجة القطوعات، بينما لا تملك هيئة المياه المال اللازم لتوفير الوقود للمولدات إن وجِدت”.
وأوضح خلف الله، أن “هيئة المياه لا يتوفر لها أي دعم مالي، سواء من قبل حكومة الولاية أو الحكومة المركزية، كما أن أكثر من 80 في المئة من دخلها يذهب لسداد فواتير تعريفة الكهرباء التجارية”، مشيراً إلى أن “هذا الواقع يجعل الهيئة عاجزة حتى عن توفير مواد التنقية للمحطات النيلية، بالإضافة إلى أن العمليات التي تتم بمد شبكة المياه إلى الأحياء السكنية العشوائية الجديدة من دون دراسة، لها أثرها السلبي على كفاءة الإمداد وكفايته”. وزاد أن “كل تلك المشكلات يُضاف إليها غياب الخطط التنموية المنضبطة بآجال زمنية محددة وتوفير التمويل اللازم، مع انعدام الكوادر الفنية الوسيطة، وغياب التدريب المستمر للعاملين، يجعل هيئة مياه الخرطوم في حاجة ماسة إلى خطة عمل استراتيجية متكاملة لمعالجة هذه القضية، التي تكاد تشمل جميع ولايات السودان”.
انسداد الشبكات
في الأثناء، تفقد أحمد عثمان حمزة، والي الخرطوم المكلف، عدداً من المرافق الخدمية ومحطات المياه وأصدر توجيهات بشأن رفع إنتاجية المياه اليومية، واطلع على تقرير فني حول التنقية والتعقيم.
من جانبه، قال عبد الله محمد عثمان، مدير مياه “محلية جبل أولياء”، ذات الكثافة السكانية العالية، التي تعيش أزمة مياه حادة، أن “شح الإمداد المائي بأحياء المحلية سببه إغلاق الخطوط الرئيسة للشبكات بتكدس جذور أشجار (الدمس) المنتشرة بالمنطقة”. وبث عثمان مقطع فيديو قصيراً يُظهر عمالاً يخرجون كتلاً من الياف جذور الشجر من أحد الخطوط الناقلة، مؤكداً استمرار عملية التنظيف حتى عودة الإمداد المائي. ويعتمد نحو 55 في المئة من سكان العاصمة السودانية على مياه الشرب من الآبار الجوفية، على الرغم من التحذيرات بكونها باتت تشكل خطراً مزدوجاً من حيث استنزاف المخزون الجوفي من المياه، فضلاً عن أنها غير مأمونة صحياً إلى حد كبير.
وشهدت ولاية الخرطوم التي تُقدر مساحتها بنحو 22 ألف كيلو متر مربع، نمواً كبيراً في الكثافة السكانية في السنوات الأخيرة نتيجة الهجرة المستمرة إليها من الأرياف بمعدل يُقدَّر، وفق إحصاءات رسمية، بنحو أكثر من 80 أسرة في اليوم الواحد، حتى أصبحت تكاد تضم ربع إجمالي سكان البلاد (نحو 43 مليون نسمة)، ويتوزع سكان الخرطوم (أكثر من 11 مليون نسمة)، على محليات الولاية السبع، وصل إليها معظمهم من ولايات أخرى سعياً وراء الرزق أو الخدمات.
جمال عبد القادر البدوي
صحيفة إندبندنت عربية