منى أبوزيد تكتب : الزائر الغليظ..!
“كل مرض معروف السبب موجود الشفاء”.. أبقراط..!
الفكرة الوحيدة التي كانت تُسيطر على تفكيري قبل سفري لأداء فريضة الحج – قبل أكثر من عشرين عاماً – كانت كيف اجتنب نوبات الصداع النصفي الذي كان يفسد عليَّ الاستمتاع بالكثير من المناسبات المهمة في حياتي. لذلك ذهبت قبل شهر من موعد السفر لزيارة أشهر الأطباء الاستشاريين المشكورين والذي سمعت عن مهارته كثيراً، وبعد سَيْلٍ من الأسئلة الدقيقة والمُتشعبِّة، خاطبني ذلك الطبيب قائلاً وهو يمسح على وجهه المتعب بيده اليمنى، بينما كان يشير نحو باب العيادة بيده اليسرى:
ـ “شوفي يا ستي” إلى هذه اللحظة لم يتوصّل الأطباء لمعرفة سبب محدد للصداع النصفي، وأيضاً لا علاج ناجح مائة بالمائة للوقاية منه، العلاج المتوفر حتى الآن هو المسكنات، ونصيحتي لك أن تجتنبي قدر الإمكان بعض المأكولات التي ثبت علمياً أن لها علاقة بهذا النوع من الصداع، أيضاً اجتنبي الروائح المُزعجة، والأهم من ذلك كله احرصي على عدم التعرُّض المباشر لأشعة الشمس أو البقاء في أماكن شديدة الحرارة..!
عندها تذكّرت عرضاً غريباً فأخبرته أنني أشعر بألم شديد في باطن القدم يتزامن مع تلك النوبات المُزعجة، فأكد لي أن لا علاقة مباشرة لذلك بالصداع، وأشار عليّ ببعض الفحوصات والتحاليل من باب الحيطة. وبعد اطلاعه على النتائج عدَّل الطبيب من وضع منظاره الطبي ورمقني بنظرة مفادها أنني أبالغ قبل أن يقول:
ـ “شوفي يا ستي” الفحوصات كلها جيدة، صحتك تمام، وتلك الآلام في باطن القدم لا سبب علمي ظاهر لها، وعليه سأكتفي بأن أكتب لكِ مُسكِّناً قوياً تأخذينه عند اللزوم..!
الغريب أنني استمتعت بأيام الحج بدون صداع تقريباً، على الرغم من حرارة الجو وشدة الازدحام، الأمر الذي يدعم بعض الآراء الطبية القائلة بوجود علاقة وطيدة بين الحالة النفسية ونوبات الصداع النصفي عند بعض الناس..!
أما المدهش حقاً فهو ما قرأته – بعد تلك الزيارة إلى ذلك الطبيب بسنوات – على موقع “إي ميديسن” الطبي، وكان الخبر المنقول عبر وكالة “رويترز” الصحية يتحدث عن دراسة طبية حديثة أُجريت في ألمانيا أطلق عليها الأطباء اسماً علمياً طويلاً مُتحذلقاً أظنه “متلازمة الأرجل القلقة والصداع النصفي” أو شيء من هذا القبيل..!
المهم أن تلك الدراسة أثبتت وجود علاقة وثيقة بين آلام الأرجل ونوبات الصداع النصفي “أتمنى من كل قلبي أن يكون ذلك الطبيب الماهر الذي استخف بشكواي قد اطلع عليها” وهي تثبت أيضاً حكمة المثل القائل “اسأل المُجرِّب قبل الطبيب”..!
بعدها أسعدني الله بعلاج نهائي على يد طبيب بارع وصف لي علاجاً ناجعاً خلصني من نوبات الصداع النصفي المُؤلمة تلك، وبلا رجعة والحمد لله بعد أن شكوت له معاناتي مع ذلك الصداع، فاستمع إلي جيداً، وهذا هو مربط الفرس..!
في أي مهنة قد تؤثر بعض الانطباعات الشخصية على صناعة القرار. ولعل تشخيص الداء بناءً على أدق التفاصيل في شكوى المريض – مهما بلغت غرابتها – يشبه إلى حد كبير إصدار أي حكم قضائي بناءً على أدلة قوية حيناً، أو جملة قرائن موضوعية أحياناً. وقد تؤثر بعض الأحكام الشخصية للطبيب على دقة التشخيص، وقد تترك الباب موارباً أمام الكثير من الحيرة والارتباك عند بعض المرضى. فهل – يا تُرى – من مُذَّكِر..؟!
صحيفة الصيحة