تحقيقات وتقارير

هاتف محمول يوقظ “معارك القبائل” في شرق السودان

أيقظت حادثة تعد ونهب على إحدى الفتيات في مدينة كسلا، عاصمة الولاية في شرق السودان، فتنة نائمة بين قبيلتي “البني عامر” و”النوبة”، سرعان ما تحولت على خلفية ماض طويل من الصراع إلى أحداث عنف راح ضحيتها اثنان من المواطنين، من بينهم سائق عربة والي الولاية المكلف، فضلاً عن عشرات الجرحى، والمنازل المحروقة من الطرفين.

وتعيش مدينة كسلا منذ أربعة أيام هدوءاً حذراً مع الانتشار المكثف للقوات المشتركة في الأحياء، لمنع تجدد الاشتباكات، والفصل بين القبيلتين وسط احتقان وتوتر ظل راكداً بين الطرفين منذ فترة ليست بالقصيرة.

شرارة الاشتعال

تعود تفاصيل الحادث، الذي كان بمثابة الشرارة التي جددت إشعال الصراع الدامي بين الطرفين، إلى قيام أحد أفراد ما يعرف بعصابات “تسعة طويلة” (عصابات النهب والخطف بالدراجات النارية)، وينتمي إلى إحدى القبيلتين، بسرقة هاتف فتاة من القبيلة الأخرى، وتطور الحادث إلى اعتداء على أحد المواطنين بتسديد طعنات بآلة حادة من قبل ثلاثة ملثمين، وبانتشار نبأ الواقعة تحولت إلى مواجهات قبلية بين المكونين، ما أدى إلى سقوط قتلى وجرحى وحرق عدد من المنازل.

سريعاً تطورت الأحداث، بحسب شهود عيان، إلى قتال دموي ومواجهات شرسة بين الطرفين أشبه بحرب الشوارع داخل المدينة، سقط خلالها قتيلان وأصيب عدد آخر من الطرفين، كما تم حرق منازل عدة، وكانت مجموعات من كل طرف تهاجم أحياء وممتلكات الطرف الآخر، وما فاقم الوضع حصول بعض المهاجمين على بعض قطع سلاح ناري.

وقال الشهود، إن الاشتباكات تطورت من شجار بين مواطنين، وسرعان ما توسعت إلى حرق المنازل، ما جعل سكان المدينة، التي غطت سماءها سحب الدخان السوداء، في حالة من الرعب والهلع، وسط إطلاق نار كثيف في الهواء من قبل القوات النظامية، في محاولة لإخافة وكبح الانفلات من الجانبين.

حظر التجوال

فوراً حركت السلطات قوات مشتركة لفض الاشتباك وبسط الأمن والفصل بين الطرفين، تم تعزيزها لاحقاً بحوالى 50 عربة عسكرية من ولاية القضارف المجاورة، لإسناد القوات الموجودة في كسلا ومساعدتها في مهمتها.

كما أعلنت لجنة أمن الولاية، حظراً للتجوال داخل المحلية وأسواقها لمدة 24 ساعة، اعتباراً من الساعة التاسعة مساء الأربعاء 11 مايو (أيار) الحالي، إلى حين صدور أمر آخر، مشددة على معاقبة كل من يخالف ذلك بموجب قانون ولوائح الطوارئ.

وقالت الأمانة العامة لحكومة الولاية، إن قرار الحظر استند إلى سريان حال الطوارئ المعلن بالبلاد، بواسطة رئيس مجلس السيادة الانتقالي، وعملاً بأحكام المادة 5 من قانون الطوارئ وحماية السلامة العامة 1997 واللائحة الصادرة بموجبه.

وحذر القرار كل من يخالف الحظر، بتطبيق العقوبات المنصوص عليها في قانون الطوارئ، وفيما تواصل لجنة أمن الولاية اجتماعاتها، أكد مدير شرطة كسلا، في تصريحات صحافية، استمرار جهود السلطات لاحتواء الأزمة بنشر قوة مشتركة لتعزيز الأمن وبسط هيبة الدولة ووضع مزيد من التدابير الأمنية.

وحث مدير الشرطة، أطراف النزاع على ضرورة اتباع سياسة ضبط النفس، لوأد الفتنة في مهدها، وشدد على دور تعزيز التعايش السلمي.

الوالي يشرح

من جانبه، أعلن والي كسلا المكلف، خوجلي حمد، استقرار الأوضاع الأمنية في المدينة، وهدوء الأحوال وعودة الحياة إلى طبيعتها بعد أحداث العنف التي شهدتها في الأيام الماضية.

وقال خوجلي، في تصريحات صحافية، إن الأحداث التي شهدتها المدينة لا تعد كونها ناتجة عن حادثة جنائية سيتكفل القانون بها، وإنها لا ترقى إلى فتنة ونزاع، مثل الذي نشب بين أبناء حيي كادوقلي ومكرام في المدينة.

وكشف الوالي عن أن أحد معتادي الإجرام من حي كادوقلي اعتدى على إحدى الفتيات من حي مكرام، ونهب هاتفها الجوال، فاستنجدت بأبناء حيها الذين أوسعوا المعتدي ضرباً مبرحاً، وتم نقله إلى مستشفى كسلا التعليمي والتحفظ عليه، بينما لم يتم القبض على الجناة.

إلى ذلك، قال مصدر مسؤول برئاسة حكومة كسلا، لـ “اندبندنت عربية”، إن الاشتباكات تم احتواؤها تماماً، وتمت السيطرة الكاملة على الأوضاع وعودتها إلى طبيعتها داخل المدينة، بعد نشر القوات في نقاط ارتكاز محددة داخل الأحياء، التي يقطنها مواطنو القبيلتين، مشيراً إلى أن الأحداث بدأت بحادث نهب جنائي تسبب في انفجار الوضع داخل المدينة على خلفية احتقان قديم في العلاقات.

ولم يستبعد المصدر أن تكون هناك أجندة خفية تقف وراء تجدد تلك الأحداث الدامية، متهماً جهات لم يسمها باستغلال حالة الاحتقان في علاقات القبيلتين، منتقداً في الوقت نفسه التباطؤ الرسمي في إكمال إجراءات جبر الضرر في الصلح السابق بين القبيلتين، مما يبقي على آثار المشكلة الأولى، ويساعد في تكرار الإحداث بين الطرفين.

كشف المصدر عن أن حكومة الولاية طالبت زعماء القبليتين بتسليم الجناة وبعض قطع الأسلحة، التي استولى عليها خلال اعتداء تم على بعض فرق القوات النظامية، والعودة بالمشكلة إلى أصلها الحقيقي ومعالجتها على أساسها الجنائي، لأن الجريمة واللصوصية لا قبيلة لها، منوهاً إلى ضرورة النأي بالحمية القبلية عن مثل هذه الأحداث وتحويلها إلى مواجهة دموية بهذه الطريقة المؤسفة.

هيبة الدولة

قبل أحداث كسلا الدامية الأخيرة بنحو يومين، أصدرت اللجنة الفنية لمجلس الأمن والدفاع القومي، توجيهات للقوات المسلحة وكل القوات النظامية الأخرى، في أنحاء البلاد كافة، بالتحرك الفوري والحاسم، باتخاذ ما يلزم من إجراءات قانونيه لحسم أي تفلتات أمنية أو ظواهر سالبة من تلك التي برزت في الفترة الأخيرة، بما يحفظ هيبة الدولة.

واستعرض الاجتماع الدوري للجنة، برئاسة الفريق أول ركن عبدالفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة الانتقالي، القائد العام للقوات المسلحة، بحضور نائبه الفريق أول محمد حمدان دقلو وأعضاء اللجنة الفنية لمجلس الأمن والدفاع القومي، الموقف الأمني والجنائي في البلاد، واتخذ في شأنه عدداً من القرارات.

كلف المجلس القوات المسلحة في المناطق كافة والفرق والقوات النظامية، بالتعامل الحاسم والقانوني مع جميع المظاهر العسكرية غير القانونية ضد أي مجموعات أو أفراد في كل مدن وأنحاء البلاد.

في السياق ذاته، نادى الناشط في مجال السلم الاجتماعي، علي أبو إدريس، بضرورة توعية وإقناع كل الأطراف بأنه لا سبيل لهم لحل خلافاتهم إلا عبر الحوار، لإقرار صيغة مشتركة للتعايش السلمي، تحفظ حقوق الجميع كمواطنين، مطالباً الحكومة وطرفي النزاع وكل القيادات المجتمعية والأهلية في المركز والولاية، بأهمية وضرورة استعجال الاتفاق، حقناً للدماء ولوقف إزهاق مزيد من الأرواح من الجانبين، الذين هم في النهاية مواطنون سواء.

ويرى أبو إدريس، أن كلا القبيلتين ضحايا لصراع ظلت تؤججه جهات لم يسمها تستغل الأحداث الصغيرة وتضخمها ببث روح الانتقام مستفيدة من الفراغ الأمني، بخاصة أن كلا القبيلتين (البني عامر والنوبة) ظلتا متعايشتين بسلام لسنين طويلة، يتجاورون في السكن وينتشرون في الأسواق ويركبون المواصلات نفسها، ويأكلون جوار بعضهم بعضاً من المطاعم ذاتها من دون أن يؤذي أحدهم الآخر.

وقبل عامين كانت المنطقة شهدت اشتباكات دامية راح ضحيتها أكثر من 10 قتلى وعدد من الجرحى، وحرق عدد كبير من المنازل والممتلكات.

وفي نهاية مارس (آذار) 2022، وقعت اشتباكات مماثلة في منطقة “عد سيدنا” بمحلية ريفي كسلا، أدت إلى سقوط عدد من الجرحى تم إسعافهم إلى مستشفى كسلا، على خلفية خلافات حول قرارات خاصة بترسيم الحدود بين القبائل، الصادر من لجنة معالجة الأوضاع في شرق السودان، سبقها بأسبوع مقتل شخصين وإصابة أكثر من 7 آخرين، في صراع قبلي في منطقة “البرمة” بمحلية “ريفي أروما”، ما اضطر السلطات إلى فرض طوق أمني حول مناطق الأحداث والقبض على 8 من المتهمين.

يذكر أن اشتباكات وقعت بين القبيلتين قبل أكثر من عامين في ولاية القضارف المجاورة، سرعان ما انتقلت إلى مدينة بورتسودان عاصمة ولاية البحر الأحمر، ما أدى إلى مقتل العشرات من الجانبين، ثم انتقل النزاع لاحقاً إلى ولاية كسلا.

وفي مارس 2020 وقعت قبيلتا البني عامر والنوبة في ولاية كسلا على وثيقة للصلح بحضور واعتماد رئيس الوزراء الدكتور عبدالله حمدوك، نصت الوثيقة على شطب كل البلاغات بما فيها القتل، وتكفلت حكومة الولاية بسداد الخسائر التي بلغت وقتها 12 مليار جنيه (حوالى 26460 دولاراً أميركياً).

وقع على الوثيقة ناظر عموم قبائل البني عامر وممثل عموم قبائل النوبة، بشهادة نظار بقية القبائل الأخرى، واعتمدها رئيس الوزراء السابق عبدالله حمدوك رئيس ووالي الولاية السابق أيضاً.

الاتساق مع شعارات الثورة

وأعرب رئيس الوزراء السابق، عبدالله حمدوك، في كلمته أمام المؤتمر عن سعادته بوثيقة الصلح، ووصفها بأنها تتسق مع شعارات الثورة في الحرية والسلام والعدالة، باعتبار أن السلام يمثل أولى أولويات الفترة الانتقالية.

ويرجع كثير من المتابعين جذور بذرة الصراع بين القبيلتين إلى الحملات الانتخابية في منتصف الثمانييات إثر ملاسنات بين مرشح الإسلاميين والنوبة أججت الوضع على نحو غير مسبوق، اندلعت على إثره أول مواجهة دامية استمرت لثلاثة أيام بين الطرفين في فبراير (شباط) 1986.

ومنذ 2019، تزايدت الصراعات الإثنية في ولايات شرق السودان الثلاث، (كسلا، والبحر الأحمر والقضارف)، مرة بين الهدندوة والبني عامر وأخرى بين البني عامر والنوبة.

جمال عبد القادر البدوي
إندبندنت عربية