صلاح الدين عووضة يكتب : ونمشي!!
وقلت أرحل..
قلتها مع وردي… والتيجاني سعيد..
أرحل – تماهياً مع الرائعة الغنائية الشعرية هذه – من عالم نسى الإلفة..
عالم اليوم المتوحش… عالم السياسة..
والذي ينتج عالماً آخر أشد توحشاً؛ هو عالم الاقتصاد… والمعايش… والأسعار..
أو بعبارة أخرى: قلت أهرب… إلى حين..
أهرب بقلمي – وعقلي – إلى عالمٍ لا توحش فيه… ولا احباط… ولا حب ذات..
عالم الذكريات… والجماليات… والأدبيات..
ولكن ما من مهربٍ هذه الأيام… وما من مفر… وما من ترفٍ كتابي..
فالأحداث تأبى إلا أن تناديني… وأناديها..
والدوش حين كتب (بناديها) لم يكن يقصد حبيبة بشرية..
فمبدعو اليسار هم أهل الترميز الإبداعي المذهل… بأسلوب السهل الممتنع..
ويمكن أن نقول أيضاً: السهل الممتع..
أما في السياسة فساستهم ذوو أسلوب على عكس ذلك تماماً..
فلا هو بالمذهل… ولا المبدع… ولا الممتع..
ومبدع يساري آخر – هو وردي – ضاهى إبداع الدوش الشعري إبداعاً لحنياً..
وأشرت إلى (بناديها) هذه في سياق اجتراري ذكرى قديمة..
ذكرى مايوية… وقد كنت في إجازة مدرسية..
وللغرابة كانت على وقع إبداع شعري ليساري آخر… هو محجوب شريف..
وبصوت وردي ذاته… وهي (يا حارسنا)..
وكنت يافعاً آنذاك؛ ولكن ثمة ذكريات ترسخ في الوجدان لسبب… أو بلا سبب..
والذكرى هذه لا أعلم لها سبباً بعينه..
ولكن ربما يمكن إرجاع بعضه إلى روعة المكان… والزمان… والإنسان..
إنسان (الخندق) الرائعة… في زمان لم يكن يقل روعة..
ورغم يفاعتي هذه فقد رفضت الخروج لاستقبال نميري… عند زيارته (كريمة)..
ولا عند زيارته حلفا كذلك..
ولم يُجد سوط الترهيب نفعاً… رغم صغر سني..
فكذلك يُحشر الطلاب – وأُجراء الدولة – كرهاً؛ ضحى يوم زينة كل طاغية..
ويصدق الطاغية أنه الملهم… والمخلص… والمحبوب..
ومن منطلق التصديق هذا يأبى التنازل عن كرسي يرى أنه له..
وأنه به أحق… وأجدر..
فحواء بلاده لم تلد مثله… ولن ؛ فهو الأول والآخر..
ويستميت دفاعاً عن كرسيه هذا حد استسهال القتل… واسترخاص الأرواح..
ويطرق أذني صدح وردي… وأنا أمشي..
ويمشي معي ابن خالي سيف الدولة؛ وتمشي معنا آمالٌ… وأحلامٌ… وأقدار..
ومشت معنا أيضاً خطانا… كما مشت مع الدوش..
ومن غرائب الصدف أن تقودنا خطانا إلى بيت سميٍّ للشاعر هذا هو الدوش..
وهو والد آمنة الدوش… زوجة قريبي صديق علي محمود..
ووالد طارق الدوش… والذي ألاقيه قبل فترة وقد غدا طبيبا ذا شأن..
ويسألني (نحن ماشين وين؟)..
فأجيبه (ماشين مع الدوش)… والإجابة تحتمل تأويلاً أدبياً من منصة كلا (الدوشين)..
أو كلا اللذين يحملان اسم الدوش هذا..
وكان قدر محجوب شريف أن يكفر بمايو… وكذلك وردي..
وقدر قائد مايو الخالدة… الظافرة… المنتصرة أبداً…. أن يدرك أنه (مكروه) الشعب..
وإن من كانوا يُحشرون له إما مكرهون… وإما منتفعون..
وقدر الدوش أن يتغنى بمشي قد لا يشبه مشينا الطفولي ذاك… إلا في وقع الخطى..
فأنَّا لنا أن نأتي بمثل قوله وهو يمشي:
تمشي معايا..
خطانا الإلفة والوحشة..
تمشي معايا وتروحي..
وتمشي معايا وسط روحي..
لا البلقاه يعرفني..
ولا بعرف معاك روحي..
وتمشي مواكب يسارية من الإبداع – والمبدعين – إلى زمان مصطفى سيد أحمد..
ولن تنتهي عنده قطعاً… فنحن في كل زمنٍ نفاجأ بمبدع منهم..
ما دامت هنالك هذه الأيقونة الشعرية:
أقابلك في زمن ماشي…. وزمن جاي…. وزمن لسه..
أشوف الماضي فيك باكر…. أريت باكر يكون هسه..
وهي أيقونة – للعلم – من كلمات الدوش لا الحلنقي… وما كان قد زاد عليها شيئا..
وإنما الذي زاد هو الحلنقي هذا بطلبٍ من وردي..
ثم لم يمانع الدوش في أن تُنسب القصيدة كلها – بما فيها الأيقونة – إلى الحلنقي..
ولكنها ظلّت كالنهر الذي يأبى بالبحر امتزاجاً..
ونحن منذ زمننا الذي مشى ذاك – ونحن نمشي – لا نشوف إلا ما يشبه الماضي..
أنا… وأنت… وهو… وهي… وابن خالي هذا..
وما زلنا في انتظار (باكر)… بعد إذ أعيانا المسير..
وأعيانا المشي..
وأعياني – أنا شخصياً – تجسيد مقطع (قلت أرحل) واقعاً كتابياً على زاويتي هذه..
فمن كُتبت عليه خطى مشاها..
وقدرنا أن نسير… ونسري… ونغدو… ونروح… وندجّ..
ونمشي!!.
صحيفة الصيحة