منى أبو زيد تكتب : الحُب والظروف..!
“لستُ المسيح أنا رجلٌ عادي أصبح زعيماً بسبب ظروف استثنائية”.. نيلسون مانديلا..!
بوفاة زوجها تَمكَّنت الظروف الموضوعية والاعتبارات العائلية من فرض سَطوتها بشأن تقرير مصير “الرضيَّة” من جديد. اجتمع كبار العائلة وقرّروا تزويجها من شقيقه الأصغر، لتجنيب الأبناء مرارة الاحتمالات التي فرضها عليهم موت أبيهم. فإمّا أن يعيشوا مع أمّهم الأرمل، بلا عائلٍ رسمي أو سندٍ مُباشرٍ، وإمّا أن يرضَخوا لواقع زوج الأم، بكل ما تحمله الفكرة من سيناريوهاتٍ قاسية..!
في الماضي، واجهت “الرضيَّة” مصاعب جمَّة في حياتها مع زوجها المرحوم، وقامت بعدة مُحاولات يائسة للحُصُول على الطلاق، باءت جميعها بالفشل، والسبب تغليب مصلحة الأبناء، الذين كانوا سيُواجهون احتمالاتٍ صَعبة، أولها وأولاها أن يفارقوا حضن أمّهم إلى واقع تحكمه زوجة أب، وليس آخرها أن يفقدوا حضن أبيهم إلى سقف يحكمه زوج أم، أو وحشة الفقر والحاجة بمعيَّة أمٍّ، يتنزَّل عقاب أبيهم عليها في صورة شُحٍ مادي وجفافٍ عاطفي..!
ثُمّ ها هي تعود اليوم لتُواجه ذات المعضلة “المصلحة العليا للأبناء”، فإمّا المُوافقة على فكرة تأباها نفسها لاعتبارات كثيرة، وإمّا مُواجهة الاحتمالات المذكورة آنفاً. إنها امرأة تعيش في ذات الدائرة الاجتماعية التي تُحافظ على سلامها وتماسُكها بتَبنِّي أكثر الحلول التوافقية التي ينتجها رأي الأغلبية. وهي امرأةٌ تنتمي إلى ذات الوجدان العام الذي يُغَلِّبُ الرَّحمة بالجماعة على مراعاة الأفراد، ويُؤمن بأولوية لمصالح الكُليَّة في مُواجهة الاعتبارات الفردية. ولأنّ الحال كان كذلك، رَضيَتْ “الرضيَّة” بشقيق الزوج السابق، في سبيل “المصلحة العليا للأبناء”، فبارك الله لها، وبارك في أولادها..!
حكاية “الرضيَّة” هي مثال لفلسفة عقلنا الجمعي في مواجهة إشكالات الحياة التي تزداد تعقيداً كل يوم، في مُجتمعٍ نشأت فيه الدولة قبل نشوء الأمة، وظلَّت تحديات الخُصُوصية البيئية والإثنية والثقافية – فيه – على حالها، عَصيَّة على معظم المُتغيِّرات التي يشهدها العالم من حولها، مُنحازةً إلى منطقها “الخاص” في الاختلاف عن العام، ومُستعصمةً بحقها “الخاص” في تقييم خلافاتها الداخلية واجتراح ما يُناسبها من الحلول المَحليَّة..!
حكاية “الرضيَّة” هي – ذاتها – حكاية المُفاوضات، الخلافات، التقاطُعات، المُماطلات، المُماحكات، والمخاوف والحيرة فالريبة فالاحتجاجات، ومن ثَمّ الوقوف على حافة الانتظار من جديد. وبإسقاط تفاصيل “حديث النفس” الذي كان يَمور في وجدان “الرضيَّة” على بعض “حديث الأنفس” الذي يَمور اليوم في وجداننا الجمعي نرى ببساطة أوجه الشبه بين ملامح المَآزق الاجتماعية والمَزالق السياسية في هذا السودان. على كُلِّ حَالٍ، مُؤكّد أنّ “الوجدان العام” الذي فَرَضَ كلمته في شأن تقرير مصير “الرضيَّة” هو الذي سوف يَفْرِضُ كلمته في شأن تقرير مصير تحديات المرحلة الانتقالية في بلادها..!
صحيفة الصيحة