حسن فضل المولى: عمر الجزلي .. وما أدراك ما المذيعون
حسن فضل المولى يكتب :
الجُزلي .. وما أدراك ما المذيعون ..
دعوني بدءاً أُقِرُّ ..
فأنا عندما أكتب عن أستاذي ( عمر الجزلي ) ، و أستظل به لإجتَّرَّ طرفاً من معايشتي للمذيعين و بداياتهم ،
و القَوَادِم من المُقَّدِمِين المُتقَّدمين ، بعضهم و ليس كلهم ، فإن دافعي للكتابة ومُلهمي ، تلك المحبة التي ظل يغمرني بها ويلُفُني ، مما جعلني ( أنا حسن ) ، دائم الإحساس ، بأنني مدان و مُمْتن له بيدٍسلفت و دين مُسْتَحَق، فلا أرى فيه إلا ماجداً ابن ماجدٍ ، نقيَّ السريرة ، حُلوَ الشمائل ..
فمنذ أن عَمِلتُ معه ، ظل ينفحني بوَهَجٍ من التشجيع و الثناء العاطر الماطر ..
و استمر يشملني بهذا الاهتمام ، قريباً منه كنت أو طال عهدي به و انقطع ..
و مؤخراً ، كنت كلما نسَجْتُ مقالاً ، يوافيني بتقريظٍ يَبُزُّ ما عبرت عنه ، حلاوةً و عمقاً و سلاسةً ..
إنه سَادِنَ الكَلِم و ابن بَجْدَتِهِ ، عِلماً
و تجرِبةً ..
و هاكم هذه القِلادة التي طوقني بها
و هو يطَّلِعُ على ما كتبته بعنوان :
( كابلي .. القومة ليك ) ..
( كعادتك يا أستاذ حسن وبقلمك السيال المبدع جسدت شخصية الكابلي المبدعه بمنتهي الروعه ، وقد تكاملت في أسطركم الرائعات المعبرات …صورةٌ زاهيةٌ لمشوار الكابلي الفني والإبداعي الطويل حيث جعلت من تلكم الأسطر الأنيقات والباهيات كتاباً مسطوراً بدقة وفنٍ وبراعه لم يسبقك عليها كاتبٌ بعد ،وذلك يغني عن مطالعة كل ماكُتب عن الاستاذ كابلي علي المدي القريب والبعيد ….
-لك ياحبيبنا واديبنا استاذ حسن فضل المولي كل التقدير مني ومن اخي كابلي الذي ارسلت له المقال وتحادثت معه عبر الهاتف وهو يشكرك كثيراً وقد أعجب بالمقال وطلب مني تسجيله بصوتي ..وسأحاول أن أفعل ذلك حال احساسي بكمون الالم قليلاً ..وقلت لكابلي أعتبر ذلك شرفاً لي بان أسجل ماكتبه عنك صديقي الحبيب الاستاذ حسن فضل المولي ولك مني وعني كل الحب يا صديق الايام الحلوه التي لاتُنسي … عمر الجزلي ) ..
فيا صديق الأيام الحلوة التي لا تنسى ..
و العُشرة النبيلة ..
هذه كلمات أحس بها تسري في نخاعي الشوكي ، و تجعلني أُنا و ( الشابِّي ) سواءً بسواء ..
( تملأني نشوةٌ لا تُحَدُّ
كأنى أصبحتُ فوق البشر
أوَدُ بروحى عِناق الوجودِ
بما فيه من أنفُسٍ أو شجر ) ..
و أكاد لا أصدق أن هذا الكلام يعنيني ..
أنا الذي لا أزال أحبو عند السفح ،
و لم أُداني هذا المُرتقى الذي رفعتني إليه ، و لا تلك الأوصاف التي خلعتها علي مما لست بها قَمِين ، و لكنه تواضع الكبار ، و هم يأخذون بيد الصغار ، و يلوحون لهم ببيارق الإكبار ،
ليُثمروا و ينأوا عن المزالق و العِثار ..
و هذا ما تفعَلُهُ مع كثيرين ، ممن كنت بالنسبة إليهم ، المُنادي و الحَادي والهادي والشادي ..
هذا هو ( عمر الجزلي ) ..
رجل طَبعُهُ الإقبال ..
و هو إذ يُقْبِلُ ،،
يُقْبِلُ بحرارة وصدق إن لم يكن بإفراطٍ
و تَزَيُّد ..
و هو لا يحتاج منك إلى كثير تقدير لكي يُقبِل عليك و يوادُّك و لكن قليلك عنده كَثِير و عزِيِز و مُقدَّر ..
و هذا صنيع الأماجد الكرام ..
فبقدر ماهو مُعْتَّد بنفسه و قُدُراتِه وقناعاته ، إلا أنه هَيِّنٌ ، أي سهلٌ متسامحٌ وذَلُول ..
تسْتَّخِفُه كلمة صادقة في حقه فتَدْمَعُ عيناه ..
و تُطْرِبُه أغنيةٌ مَنْسُوجةٌ بحب فيذوب
وَجْداً ..
و يَهُزُه موقفٌ وطنيٌ فيزأر كأسدٍ وُطِئ عَرِينُه ..
و عندما يفرح ينفجر ضاحكاً كطفلٍ في أقصى نوبات الإبتهاج ..
و عندما يُغضبه أحدٌ أو فِعلٌ ، يثور كالريح المرسلة التي لا تُبقي و لا تذر ..
و أنا في تداعي سابق مهدت للحديث عن ( الجزلي ) بِتَذَكُّر طرف من سيرة ( ليلي المغربي ) ، و التي و إن فَرَّق بينه و بينها ( النوع ) إلا أن التشابه بينهما ظل طاغياً ، في ارتياد مراتع الجمال ،
و السعي لإسعاد الناس ، بحلو القول ،
و أناقة الحضور و بهائه ، و دفء المشاعر ، قُلتُ :
( وأذكر هنا ليلي المغربي
والتي كلما تذكرت التقديم تتراءى لي .. وهي إمرأة وقورة مكتملة النضج ..
عندما تتحدث توقن أن الكلام خُلِق لها ..
من فمٍ إذا نثر الحديث حسبته نثر الدرر ..
أفكارها تأتي مرتبة وكأنها حبات عقد نَظِيم ..
دعوتها للإنضمام إلينا في ( تلفزيون السودان ) فكانت إضافة مُبْهِجة ومدوية ..
ومن بعدها أتيت بشقيقتها ( هيام ) قارئة للأخبار .
ولا أزال منتشيا بحوار ليلى مع شاعر أفريقيا ( محمد مفتاح الفيتوري ) ..
و نحن في طريقنا إلى ( أستديو علي شمو ) إلتَفتَ إليها ، وقال فيها كلاما جَزِلا يضوع رهافة و شاعرية ، فعَلَت ثغرها ابتسامة حَيِيَّة أضاءت المكان
و الزمان ..
وذات ظهيرة تلقيت إتصالا منها ، ذكرت لي أنها في طريقها الى المطار لأداء فريضة الحج برفقة شقيقتها هيام ، وقد تركت لي مذكرة مهمة بمكتبها بمجلس الصداقة ، قد تكون آخر ماكتبت ، و هي ما لم أعثر عليها حتى اليوم ..
وقد قدر لي أن ألحق بهما بعد يومين حاجا مع السيد الرئيس ، ونحن في جدة ، قبل أن نُحْرِم ، تلقيت إتصالا من أحد الأخوة ، ذكر لي أنه قد علم بوجودي ، ليبلغني بأن حادثا قد وقع قبل قليل لإثنين من مذيعاتكم ، و فارقتا الحياة ، ( ليلى ) و ( هيام ) ، وهنّ محرمات في الطريق الى مكة ..
عندها تجلى لي كيف تكون النهايات السعيدة ، وهي أن تلقى الله وأنت تَغُــذُ إليه المسير ، وهتافك ”لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ،لا شريك لك” ..
ويأتيك بالأخبار عمر الجزلي ..
والجزلي إسم من ذهب لا تراه إلا ومعقود بناصيتة التجويد والإتقان ..
يأتي مبكرا ويَنْكَّبُ على الأخبار مراجعا ، فلا يترك فتحة ولا ضمة ولا كسرة ولا أدنى من ذلك إلا أحصاها ، وهو الذي بإستطاعته أن يجيد قراءتها لأول وهلة ، و هو مغمض العينين ، ولكنها المهنية في أنصع تجلياتها ..
عاطفته وصدقه يسبقان لسانه … إلخ )
إنتهى ..
نعم ..
( الجزلي ) ..
جَزِل الحديث عذبُهُ ..
جزيل الثناء غزيرُهُ ..
و لعل أكثر ما يميزه هو التحلى بأعلى درجات الإنضباط و الدقة و بذل الوسع لإخراج ما يليه من تكليف في أبهى وأتم صورة ..
تراه يأتي مبكراً في حُلة زاهية أجاد اختيارها وتنسيقها ، و كأنه في يوم عُرس أو عيد ..
أول ما يلقاك منه عطرُه الهادي المُنعِش ..
ينهمك في الإعداد والمراجعة و كأنه تلميذ ينتظره إمتحان عصيب ..
يتفقد المكان ليكمل ما نقص أو ينفي
ما زاد عن الحاجة ..
كل ما سيقوله مكتوب و محسوب ، لذلك فلن تُحصِي عليه خطأً في إسم ضيف أو مكان أو إبراز معلومة ..
يجلس أمام المايكرفون في و قار
و مهابة و حيوية ، لا يتأتى معها استرخاء
أو شرود أو لامبالاة ..
كان مجرد ظهوره على الشاشة ، في وقت غير المعتاد ، يعني أن أمراً جللاً قد وقع أو يُنْتَظَرُ وقوعه ، فيُضْفِي على الموقف ظلالاً من الحرارة و الاشتعال ، لذلك عندما أتيت أحمل بيان ( ٤رمضان ) ، وهو ماعُرِف بالمفاصلة ، كان أول من صادفته ( الجزلي ) ، فتفَادَيتُهُ ، و أسندت ( التنويه ) للمذيع الشاب ( طارق أبو شورة ) ، حرصاً مني على خفض درجة الحرارة ، و عدم إكساب الأمر زخماً و زلزلةً ، كما كان يريد البعض ..
يُعَّظِّم الأفكارَ و يحتفي بها ، فعندما فاتحته مرة بنيتي في إسناد ( النشرة الرئيسة ) لإثنين من المذيعين ، بدلاًمن واحد ، كما كان سارياً ، تحمس للفكرة ، التي مكنتنا من إضفاء حيوية على الأخبار ، و استيعاب ثلة من الشباب ، الذين دفعتُ بهم ، فكان ( الزبير نايل ) و ( إسلام صالح ) و ( عبدالماجد هارون ) و ( شريف حسين شريف )
و ( أسامة الخليفة ) و ( إكرام محمد عبدالله ) و ( عمار عبدالرحمن )
و ( ياسر عبدالماجد) و ( نازك أبنعوف )
و ( منال محمد سعيد ) و ( أماني عبدالرحمن ) و ( سارة فضل الله )
و ( كوثر بيومي ) و ( عزالدين خضر )
و( فيصل عبدالله ) و آخرين وأُخريات ، من الذين تشاركوا التقديم ، جنباً إلى جانب الكِبار ، ( الجزلي ) و ( أحمد سليمان ضو البيت ) و ( إسحق عثمان )
و ( الصباغ ) و ( محمد طاهر ) و ( هيام المغربي ) و ( جمال الدين مصطفى )
و ( محجوب بخيت )
و ( يسرية محمد الحسن ) ، و قد كتبت فيها مقالاً بعنوان ..
(يسرية محمد الحسن .. شجرة الرُّمَّان)
قلت فيه : ( لو تجسدت البساطة في صورة امرأة، فلن تكون غير ( يسرية محمد الحسن ) ..
و امتد إيماني بالثنائية في التقديم بدلاً عن الأحادية التي كانت سائدة ، إلى المنوعات فأرَّقَتْنِي فكرةٌ كنت أنتظر من يُزِينُها لي ..
و كان أن استقبلت العميد ( سليمان محمد سليمان ) ، و كان يومها وزيراً للإعلام ، وبرفقته شابٌ نَضِرٌ تبدو عليه سيماء النجابة و النباهة و النبوغ ، فأثنى على أدائه بتلفزيون مدني ، و التي كان حاكماً لإقليمها ، و قد كان مُحِقاً فيما ذهب إليه ..
و في تلك الأيام و أنا أعود إلى مكتبي بإدارة البرامج و جدت من تنتظر بمعية المنتجة ( إيثار فرح خليل فرح ) ، فتاةً مُضيئةً و وضيئةً و وضاحةً ، فقلت في نفسي ( لقد و جدتهما ) ..
( الطيب عبدالماجد ) ..
( هبة المهندس ) ..
و اكتملت في ذهني ملامح برنامج ( مشوار المساء ) و الذي إدخرت له أخي( الشفيع عبد العزيز ) منتجاً ، و هو من قدمه إليَّ ، من قبل ، صديقي ( هلاوي ) ، و قد إنضم إليَّ مع كوكبة من النجوم اللوامع السواطع ، مصطفى أبوالعزائم ، و سعدالدين إبراهيم ،
و نجيب نورالدين ، و صلاح التوم من الله ، و عبدالوهاب هلاوي ..
و بمشوار المساء ،،
لمع نجما ( الطيب ) و ( هبة ) ،،
و أصبحا لحناً لا يغادر الشفاه ،،
و أزهرت الثنائية في التقديم ، أروع وأبهى تجلياتها ،،
و تحقق مقصدي في نقل عادة المشاهدة من آخر الليل إلى العصر وأول المساء ، الأمر الذي كان يعارضه البعض ، بحجة أن الناس في هذا التوقيت يخملون و يخمدون ،،
و بعد ذلك أوفدتهما في ( مهمة برامجية ) إلى ( دولة الإمارات ) ، و في الأثناء ، تلقيا عرضاً من ( تلفزيون الشارقة ) ، و عندما عَرَضَا عليَّ الأمر رفعت عنهما الحرج ، بأن وجودهما في الخارج إمتدادٌ لنا و إضافة و مصدر فخرٍ ، فلا تترددان في قبول العرض ،،
و قد كان ..
و شارك من بعدهما في التقديم ، ( يس إبراهيم ) و ( ليلى المغربي ) و (محمد جمال الدين) و ( إيمان أحمد دفع الله ) و ( أماني عباس ) و ( انتصار مصطفى ) و ( نجلاء فتحي ) و آخرون ..
و على هذا الهَدْي ولدت ثنائية ( مساء جديد ) ، و هو ما سأنبئ عنه لاحقاً ..
و يومها ..
توافدت علينا العصافير من كل ناحية ، صغاراً و كبارا و بين ذلك ،،
و حطوا رحالهم على الرحب و السعة ،، واتخذ كلٌ منهم لنفسه فنناً ليُغرِد مع من سبق من المغردين ..
دكتور ( حمزة عوض الله ) ، ( حسن إبراهيم ) ، ( ناجي حسن ) ، ( معتصم محمد الحسن ) ، ( رضا مصطفى ) ، ( عبدالله محمد الحسن ) ، ( غادة عبدالهادي ) ، ( نادر أحمد الطيب ) ، ( تماضر عبدالعزيز القاضي ) ،( نجوى مصطفى ) ، ( ليلى مهدي ) ، ( آفاق إمام الدين ) ، ( جدية عثمان ) ، ( نسرين سوركتي ) ، ( مروة الحاج ) ، ( ناهد مدثر ) ، ( أمل فؤاد ) ، ( هالة محمد عثمان) ، ( سلوى النَيَّل ) ،
و آخرون ..
و في ( ملكال ) اِستوقفني شاب أبنوسي كان يقدم فقرات ( اللقاء الجماهيري ) ،
و عندما فرغ من تقديم إحدى الفقرات قلت له : ( لو جيت الخرطوم مُر علي ) ، و بعد أيام جاءني ، فكان ( عادل فارس ) مذيعاً مجيداً و متميزاً ، و هو اليوم مدير قناة ( جنوبنا ) ..
و قَدِم إليّ يوماً الأستاذ ( محمد الكبير الكتبي ) و بصحبته شابة نجلاء مُقبلة على الحياة بقوة ..
رأيت فيها طلاقةً ونباهةً وملاحةً ،
فتَعَجلتُ ظهورها في الشاشة ، الأمر الذي كان مدعاة لإستغراب و غضب الراحل الأستاذ ( الطيب مصطفى ) ، إذ كيف أدفع بهذه ( الصغيرونة ) ، و التي كانت هي ( بسمات عثمان ) بكل هذه التلقائية والعفوية والعذوبة ..
و أسعدني بزيارته الصحفي الفخيم ( كمال حسن بخيت ) ، و برفقته ( عفاف حسن أمين ) ، فبدا لي منها ماهي عليه الآن ..
و أتاني ( علاء الدين الضي ) بشابة فارعة أبدى لي رغبتها في التقديم ،،
قلت لها ( ممكن تقدمي النشرة الجوية ؟) ،،
قالت : ( الجويييييية كيف يعني ؟؟؟ ) ،، ظنت أنني أريد التخلص منها ،،
قلت : ( أنا جادي أيه رايك تجربي ونحن بنساعدك بالتدريب و المعلومة ) ،،
فكانت إخلاص النوراني أول مذيعة نشرة جوية ..
و استدنيت الباسقة ( فاطمة الصادق ) ( ذات النِطاقين ) ، كونها جمعت مابين الصحافة و الإذاعة المرئية ، و من هناك كانت البداية الواثقة و المُتَّقِدة من ( مشوار المساء ) لمشوار ( فافِي ) الأخضر ..
و ( تميل خطواتي نشوانه
تعانق دربك الأخضر
وحات اللوعة و الأشواق
يا مشوار ماتقصر ) ..
و أنا أتوقف عند ( شريف ) بالملازمين
أقبل عليَّ فتىً غض الإهاب ، أي صغير ناعم طري العود ، قال الشاعر :
شِبْنَا و حبك ما يزال فتىً
غض الإهاب يُغَازِل الدهر ..
أبدى لي ( سامر العمرابي ) يومها رغبته في الالتحاق بالتلفزيون ، و قد بدأ مشواره بالإذاعة ، فتحققت له رغبته
و غَزَا الفضاء مُرَفْرِفاً مُنساباً ..
و في ساعة متأخرة من الليل اتَّصَلتُ به ، مقترحاً عليه تقديم برنامج ، يعنى بالتثقيف الصحي فاستجاب ،،
و عندما أصبح الصبح كان معي ،،
إنه المحبوب دكتور ( عمر محمود خالد ) ،،
فبزغ فجر برنامج ( صحة و عافية ) ..
و كانت ( خمس سنين
و درب الريد معاك أخضر
خمس سنين بريدِك كل يوم أكتر ) ..
ومن بعد إنتقل إلى ( النيل الأزرق ) ..
و كانت السعادة تغمرني و تملأ جوانحي ، و أنا أُوَّطِّئ المِهاد و أُهيِّئُ الأسباب لجهابذةٍ عِظام ..
( احمد البلال الطيب ) ، بصراحته المعودة و المشهودة و المحمودة ..
و ( حسين خوجلي) بأيامه المُزدانة ذات البريق والإيقاع ..
و ( كمال حامد ) ، بصولاته في عالم الرياضة و الرياضيين و المُستَرْيِّضين ..
و صِنو النسائم ، و عاشقها ، الحبيب إلى نفسي ، الفريق ( إبراهيم أحمد عبدالكريم ) ،،
( نسايم الليل زوريني
بالشَّذى و الطيب عوديني) ..
و الفَذُّ ( خالد الإعيسر ) ، يوافيني من مدينة الضباب ، ( لندن ) ، بحوار ( خبطة ) ، يَزِنُ مائةً ، مع شاعر يجهله الكثيرون ، و هو ( تاج السر كُنَّة ) ، شاعر ..
( يا نديمي
دعك من عثرات قولي
و اترع الكأس تناجي الكون مثلي
لا تظُنني أبِيِدُ العمرَ لهواً
إذ أنا جِسمٌ به البُرْكانُ يغلي
سوف يأتي باسم الثغر يُلَوِّح بالأماني
طيُّ عينيه بَريِقٌ و غُمُوضٌ و معاني
يحمل الروح إليَّ
يزرع العطفَ نديِّا
يَسْكُبُ الآهات همساً في ثنايا أذُنَيَّا
و بها أحيا و أنسى ما ضناني
لا لا
لا تسلني .. ) ..
و عندما تستمع إليها من الموسيقار
( محمد الأمين ) ، تحسه يصُّب عليها من مشاعره صبَّاً ، و بأداءٍ يُسبي
و يشجي ، و كذلك يُضني ..
و هكذا استمر الغرس و الإزهار ..
و كان ( عمر الجزلي ) ، يُسيطر
و يستفِيض و يُرْبي ، و هو ينثر من كنانته في كل إتجاه وناحية ، و يعطي من تجرِبته لكل مُلتَمِسٍ رَشْفاً و غَرْفاً ..
و بالنصاعة ذاتها التي كان يُبْدِيها و هو يقدم الأخبار ، كان يُبْهِجنا بحديث الفنون و اللُّحُون و الطرب الموزون ..
لقد أقام محاريب للجمال في كل ناحية ، من خلال برامجه المسموعة
و المرئية ..
إنه أروع من ترجم تلك الصلة التي جمعت ( عثمان حسين ) و ( بازرعة ) ، فسالت بها أودية من العواطف النبيلة
و الريدة المُمِّضَة والشجن الأليم في ..
قصتنا ..
و شجن ..
و لا و حبك ..
و الوكر المهجور ..
و القُبلة السكرى ..
و ( جاي تترجاني اغفر ليك ذنبك
ما كفاية الشفتو من نارك و حبك ) ..
وإن الهوى الأمدرماني الذي يتنفسه ساقه إلى ( إبراهيم عوض ) و ( سيف الدين الدسوقي ) و ( عبداللطيف خضر ودالحاوي ) ، و كأني أراه يجالس هؤلاء الثلاثة العظام ، و يشحذ قرائحهم ،
و يستمطر ذوب مشاعرهم ، ليصوغوا لنا أغنية أشبه بإكسير الحياة و طب القلوب ..
( ليه بنهرب من مصيرنا
و نقضي أيامنا في عذاب
ليه تقول لي انتهينا
نحن في عز الشباب ) ..
و من غيره استطاع أن يستنطق كابلي ، ويصعد بنا إلى أفلاكه و مداراته العلوية حيث لا أمنيات تخيب و لا عين عدوٍ تُصيِبُ ..
و حيث ..
ضنين الوعد
و شذا زهر
و عقبال بيك نفرح يازينة
و ( لك من فؤادي باقة الحب الحنون
لك من عيوني دمعة الحزن الهتون
لك من جنوني ياجنوني ألف لون
لك من فؤادي مايكون ولا يكون
ولك السلام ولهفتي وتساؤلي
ماذا يكون حبيبتي
ماذا يكون ) ..
و يطوف بك على ( ابن البادية ) و هو برفقة ( محمد يوسف موسى ) على جناح ( كِلمة ) ..
( أعيش في ظلمة و انت صباحي
و انت طبيبي أموت بي جراحي
في شعري رفعتك أسما مكانة
يا الجازيتني بكسر جناحي )
و يحمِلك إلى ( حمد الريح ) و ( صلاح أحمد ابراهيم ) ليجعلك تشتهي معهما ( مَرِيّا ) ، و تجن بها جنوناً ..
( يا مريا
ليت لي إزميلَ فدياس و روحاً عبقرية
و أمامي تلّ مَرمَر
لنَحَتُّ الفتنةَ الهوجاءَ في نفسِ مقاييسَكِ
تمثالاً مُكَبر ) ..
و تتذوق على مائدته طعم الغناء عند ( سيد خليفة ) ، و يرْمِضُك و هو يستعرض ( ملحمة النهاية ) التي نظمها ( هاشم صديق ) ، و أودعها أنبل مشاعر الالتياع و أحرّّ أنفاس الوداع ..
( يوم في يوم غريب
فيهو الشمس لمت غروبا و سافرت
بانت نجوم متفرقات زي الدموع
في خد حبيب ودع حبيبتو السافرت
و الليل ضفائر حزنو مداها الألم
زي التقول عارف النهاية القاربت ) ..
هذه الأغنية ، بعد أن صدحت بها الأميرة ( مكارم بشير ) في إحدى حلقات ( أغاني و أغاني ) ، إتصل بي الأستاذ ( هاشم صديق ) مبدياً إنبهاره بأدائها الرائع ، و استعداده للتنازل لها عن كلمات الأغنية ، فعَرَضتُ عليه أن أجمع بينهما في ( مساء الجمعة ) ،
و قد كان ، و عندما تغنت ( مكارم ) ، غشيت الأستاذ ( هاشم ) هالة من
السمو الخاشع ، إمتزج فيها الشَّجَى
بالإرتياح و الرِضى ..
هذا هو ( الجزلي ) ..
بكل هذه الرحابة و الرهابة ..
و قبل أن أستأنف التَّذَكُّر ، يلزمني أن أفصح عن إحساس غامر يضاعف من قيمة الحياة و يُزَكيها ..
و هو أن من أحَبَّ الأعمال إلى النفس وأرضاها ، أن تكون سبباً في تحقيق أمنية و بلوغ غاية ، فتظل إلى جانب من يَحْبُو حتى يمشي ، و تلاحق من يمشي متعثراً حتى يعتدل في مشيته و يرْكُضُ
و يرتاد الثريا ..
تفعل ذلك بكل ما أوتيت من قوة و صبر
و أمل في الغد ، و بكل متعة ، وهي متعة لا يتذوق لذتها ، و يتقلب في نعيمها ، إلا من فعل ذلك بحب و نبل مقصد و قلب سليم ، فُيُسَر ،،
و هو يرى ميلاداً جديداً ،،
و فجراً يتنفس ،،
ونبتة تتفتق و تأتلق ..
لذلك كنت أقول لمن يرى ( فيه ) أو ( فيها ) أن هذا دون المستوى أو تلك لسه بدري عليها ، أقول : يجب إتاحة المزيد من الفرص و إيلاء المزيد من الرعاية ، فما من أحد إلا و بدأ صغيراً ثم غدا كبيراً..
هكذا كنتَ أنتَ و أنتِ ،،
و هكذا كنتُ أنا و سواي ،،
و هكذا فطرة الله التي فطر الناس عليها ..
إنهادعوة لغرس الأشجار و رعايتها حتى تنموا و تُزهر و تثمر ، بمنأى عن المعاول
و المكائد و المصائد ..
و قد إقتضاني السياق هنا ، و الحديث عن ( الجزلي ) التركيز على المذيعين ،
و لكني ظللت أختط هذا النهج في كل
وظائف العملية التلفزيونية ، و هذا ما أرجو أن تتاح لي الفرصة للخوض فيه ،، فمثلاً ، و أنا أقضي آخر أيامي في ( تلفزيون السودان ) وقف أمامي شابٌ ، حديث التخرج ، طلب مني تحقيق رغبته في الإنضمام إلى المخرجين ، فأرسلته إلى صديقي الودود ( بدرالدين حسني ) ، و وجهت بأن يتيحوا له الفرصة كمساعد مخرج ، و بعد فترة جاءني مُحبطاً و شاكياً ، من أن المعنيين قد حرموه من حقه في كتابة إسمه كمساعد مخرج على( التتر ) ، فطلبت من الأستاذ ( بدرالدين ) ، أن لايبخسوا ( مجدي عوض صديق ) صنيعه ،
و قلت له : ( أكتبوا إسمه ، ده بكره حيكون مخرج كبير زيكم كده ، ساعدوا عليكم الله ) ..
و قد كان ..
و أنا أحكي عن بدايات صغيرة كانت واعدة و مبشرة و ذات رجاء عريض ،
تقودني خطاي إلى ساحة صار لها فَوْح
و أريج ، ( قناة النيل الأزرق ) ..
و أنا لا أزال في ( أول مُبْتَداي ) إقتحم عليَّ المكانَ من عرَّفوني بأسمائهم : ( أمجد نورالدين ) ، و ( تسابيح مبارك خاطر ) ، و ( رشا الرشيد ) ..
قالوا لي وهم في غاية الضجر : ( لقد قضينا فترة متطاولة في التدريب و ليس أمامنا سوى أن ننصرف ) ..
تجاذبت معهم أطراف الحديث ، فلمست فيهم إشراقاً و ثقة بالأنفس بلا حدود ولا كوابح ، و وجدتني أمام ثلاثي واعد ، يمكن الرِهان عليه و الوثوق به ، فبذلت لهم نصحي وحرصي ..
و إمعاناً في الحرص أذكر أنني بعد أيام منحتهم بالقديم ( مائة و ثمانون
ألف ج ) لكلٍ ، ( وردة في شكل مرتب )، محاولة مني لاستبقائهم وتثبيتهم ..
و لما عزمت على إحياء فترة العصر
و أول المساء ببرنامج طازج ( مباشر ) ، أقنعت رَبْعِي بأن نعهد به إلى ( أمجد )
و ( تسابيح ) و ( رشا ) ، و ( محمد الطيب ) ، رغم أن ( القناة ) كانت تحتضن يومها ، من هم أرسخ
و أضوأ و أشمخ و أعلى كُعوباً ،،( سعدالدين حسن ) ، ( سلمى سيد ) ، ( محمد محمود ) ، ( نسرين سوركتي ) ،
و ( حامد الناظر ) و آخرين ..
فاستغرب البعض ، و أشفق الكثيرون ،
و تندر آخرون من هذه المغامرة ..
و في أول حلقة من ( مساء جديد ) ،
امتزجت الدهشة بالخوف بالترقب بالإنبهار ،،
فكان أن انتشى المساء و أضاء ، و بدأت الإنطلاقة التي لاتزال تمضي نحو الجوزاء ..
و بعد أوانٍ قصير ، إنتقل ( سعدالدين ) إلى فضاء آخر ، و اختطفت الشروق ( نسرين ) و ( سلمى ) و ( حامد الناظر ) ..
و أواصل ..
لقد كنا في منزل الفنان الأستاذ ( علي مهدي ) و هو يحتفي بضيوف الراحل ( عزالدين محمد إبراهيم ) ، سودانيز ساوند ، و هم ( الفنان نور الشريف )
و زوجته الفنانة ( بوسي ) ، فاسترعت إنتباهي الصحفية الجسورة ( نسرين النمر ) ، و هي تَتَنَّقل كالفراشة الزاهية مُسْتَّنطقةً الضيوف عن مشاهداتهم
و جوانب من مسيرتهم الفنية ،،
فقلت : ( إن المَطَرَ الليِّن من بشايرو بَيِّن ) ،،
و في اليوم التالي دفعت برقم هاتفها للمنتجة ( منال فتح الرحمن ) ، لاستضافتها في برنامج ، أظُنُه ( للنساء والرجال ) لأنظر في حضورها و غَزْلِها ، فأجادت ، و أظهرت من القُدرات ما يُثلج الصدر ، مما جعلنا نُعَجِّل بدعوتها للإنضمام إلينا ، فكان هذا الرَّواء والإنبثاق والعطاء الدفَّاق ،،
و لقد بلغت عندي سدرة منتهى التألق ،
و هي تُطَرِّز لقاءين نادرين ، لم يتكررا ، مع من هَفَت إليهما أفئدةٌ و مُهَجٌ ،
و قد عجَّلا بالرحيل ..
فضل الله محمد ..
( قلنا ماممكن تسافر
نحن حالفين بالمشاعر ) ..
وسافَرَ هوَ ..
و ( عزمي أحمد خليل ) ..
( هسه خايف من فراقك
لما يحصل بَبْقَى كيف ) ..
و فَارَقَ هوَ ..
و أبدى لي مرة الأستاذ ( فتح الرحمن النحاس ) إعجابه بأداء مذيعة في راديو ( مانقو ) ، فأرسلت في طلبها ، فجاءتني تمشي مطمئنة واثقة الخُطوة ، و أذكر المعاينة التي أجريت لها، وكيف أن أداءها كان مبهراً ، ليبدأ مشوار ( نجود حبيب ) ..
و ( نجود ) تُظهِر حماساً دافقاً للنهوض بأي تكليف يسند إليها ، و لعلها أفضل من يحتفي بضيوفه في البرامج ، حتى تظن أنها قد بالغت ، و لكنه طبعها الذي فُطِرت عليه ، و هو مما يريح الضيف ،،
و هي تُغْدِقُ عليك من الوفاء و المحنَّة ما يُزَهِّدك في من خُلقهم النُكران
و التجافي ..
و أنا ، لاشيء يأسرني في هذه الحياة مثل ( الوفاء ) ، و لو قلِيلُه ،،
و لا شيء يقُضُّ مضجعي مثل عدم ( الوفاء ) ،،
و لو علم الناس ما في ( الوفاء ) من طُيُوبٍ لاتخذوه دِثاراً ، يذيقهم لَذَّة العيش و يَقِيهِم حَرُورَها ،،
فَبِهِ يعظُم في عينك من يبدو للعَيَان صغيراً ، و بدونه يتلاشى في عينك المُنْتَفِخ المُتَعَاظِمُ ..
و إن كان الوفاء ، في يومنا هذا ، قد أصبح ( أندر من الكبريت الأحمر ) ..
ذهب الوفاء ذِهابَ أمسِ الذاهبِ
و الناسُ بين مُخَاتلٍ و مُوارِبِ
يفشون بينهم المودَّةَ و الصفاء
و قلوبهم مَحْشُوَّةٌ بعقارِبِ ..
و على ذكر ( الوفاء ) ..
فأنا في زيارة للدكتور ( يوسف السماني ) في الرياضية ( ١٠٤ ) جاءتني ( إسراء عادل ) فقالت لي : ( أنا عايزة أجيكم ياأستاذ ) فرحبت بها ، و قلت هذه مكسبٌ عظيم لنا ، و بعد إطلالتها الأولى ، في الموقف الإخباري ، سألت من فوَّضتُ أمرَها إليه : ( أها كيف إسراء ؟ ) قال لي : ( ما خالص ) ، حينها أبديت لها بعض الملاحظات ( الشكلية ) ، ومن ذلك : ( شيلي النضارة دي و ما تلبسيها على الهواء) و بعدها أخذت في التوهج ، كمذيعة ينقاد لها الصعب ، و يسلس لها المُعَقَّد ، مع حضور مُبْهِج أخَّاذٍ و لألاء ،، و لألاء تعني ضوء السِراج ، و تُطلَقُ أيضاً على بائع اللؤلؤ ،،
و منذ مغادرتي القناة ظلت تبدي نحوي من الوفاء المِدْرار و التقدير ، ما يَشِي بنبلها وأصالة معدنها ، بالرغم من تلك القسوة التي مارستها معها يوماً، بسبب ( قناة الشروق ) ..
و هذا يضعها في مقارنة مع آخرين ،، فمثلاً ، ( مذيعة ) في أول عهدها ، طلبتُ ممن سعى لتحجيمها و أراد إقصاءها بحجة ، أنها و أنها ، و أن أداءها و هيأتها لا يسعفانها ، بأن تمنح الفرصة الكافية ، لإثبات قُدُراتها ، و أكيد سترى منها ما قد لا تراه الآن ، و قد كان ،،
و بعد أن نبت ( ريشها ) ، و ( انتفخ خيشُومُها )و ( برزت زعانِفُها ) ، أوكلنا إليها تقديم برنامج شهير لغياب مقدمه ، و كان ( مُباشراً ) فجاءت متأخرة قبل ربع ساعة ، فزَجَرتُها ، فاشتكت لطوب الأرض ، و هذا الموقف ، وموقفان سبقا ، جعلها تُعرْبِد فَرِحةً ، عندما عصفت بي ( لجنة التمكين ) ، و ترميني بحِمَم ٍ من ( الشماتة المَقِيتة ) ،
و ( التَلَذُذ الثوري الكاذِب ) مايُلوِّث الفضاء ويجعل ماء ( النيل ) أُجَاجَاً زُعاقاً ، أي شديد المُلُوحة ،،
مع أنه في الوقت ذاته اتصل بي إثنان من قادة ( الحرية و التغيير ) نقلا إلي تعاطفهما معي ، و طلبا مني اللجوء إلى القانون ، لمناهضة هذا الإعتساف العسوف ، الذي لا سند له ، فهوّنت لهما من الأمر و أبديت زهدي فيه ، وشكرتهما ، و أنا كلي إيمان بما وقَرَ في يقيني من قول الرسول الأكرم ( ص ) : ( أن ما أصَابَكَ لم يكن لِيُخْطِئَكَ ، و ما أخطأك لم يكن لِيُصِيبَك ) ،،
ومضيت ..
و الشمسُ والإشراقُ الجميلُ و الكون
الفسيح إزائي و غِنائي و رَوَائي ..
و أواصل مع ( الريان الظاهر ) ، إذ وجدت لها ( مقطعاً مصوراً ) في أحد القروبات ، يوم أن كانت في ( قناة قون ) ، والتي توقفت بعد ذلك ، فأوصيت لها من يعرفها ، إلا أنها لم تظهر ، و قابلتها في روتانا بصحبة المخرج ( المُلَّثَّم ) و هي تقدم برنامجاً لشركة( زين ) فقال لي ( الملثم ) : هذه المذيعة تشبه قناتكم فقلت لها بإمكانِكِ الحضور إلينا ، وعرضت عليها ما بهاتفي من مادة لها ، و لكنها لم تأتي ، و كان أحد الإخوة قد ذكر لي بأن هذه المذيعة تحمل وفاءً ( لقون ) وتنتظر عودتها ، و قد تبَيَّنْتُ بعد ذلك وفاءها و إخلاصها ،،
و أنا أتصفح قروب الصحفية النابهة ( مروة الزين ) ، كتَبَتْ تُطالبني بضم ( ريان ) لقناة النيل الأزرق ، فاستخرجت
رقمها ، و قد كانت منتمية لهذه المجموعة ، و اتصلت بها ،،
( ريان ) معاك ح .ف . (قناة النيل ) الأزرق ،،
أهلاً ياأستاذ ،،
أنا شايف أحسن تجي تشتغلي معانا ولو ( قون ) رجعت ممكن تمشي ،،
طيب ، بس أنا في ( رَبَك ) برجع بعد بكره وبجي عليكم ،،
و جاءت في الموعد و بدأت تَضُوعُ ..
و يُحكى أن سودانيا ًفي السعودية خرج من صف الإجراءت غاضباً ، فسأله من كان إلى جانبه من الباكستانيين :
( سَدِيق أيش فيك ؟ ) ، فأفاده برفض معاملته فنصحه : ( روح أوقف تاني ) ، ففعل ، فاستجيب لطلبه ،،
وهذا الموقف يذكرني ( بنادين علاء الدين ) ، جاءتني فأرسلتها للمعاينة فقالوا لي ، ليست كما نَوَّدُ ، فقلت لها غيبي و تعالي ، ففعلت ، و لا جديد ، فرجوتها أن لاتيأس لقناعتي بتميزها ،
و جاءت للمرة الثالثة و هي زاهدة ، فمنحها رئيس اللجنة و لعله كان يومها الأخ المخرج ( لؤي بابكر صديق ) إشادة بالغة مما جعلنا نسارع إلى استيعابها فجادت و أجادت ..
و قبل ذلك و أنا أشهد منشطاً في جامعة ( قاردن ستي ) ، رأيت ( سهام عمر ) ،
و هي تغطي لتلفزيون الولاية ، وكانت تضع على رأسها (كسكتة ) ، فقلت لمن كان معي : (لو جاءتنا هذه المذيعة ) ،
و بعد أيام وجدت في انتظاري الأستاذ ( عبد اللطيف خضر ود الحاوي ) ،
و كانت برفقته ( سهام ) ، فأثنى عليها ، واجتازت ( العَقبة ) بأسرع مايكون ،،
و ليلة أن بلغني نبأ رحيل الإمبراطور ( وردي ) ، عَجِِلتُ إلى القناة ، و كانت ( سهام ) قد أبحرت بحلقة ( مافي مشكلة ) ، و في قمة إندياح الأستاذة ( سارة أبو ) ، طلبت من المُنَّفِذ إدخال ( فاصلة ) ، و نقلت إلى ( سهام ) النبأ ، فما كان منها إلا و أن انعطفت بالحلقة مائة و ثمانين درجة ، من ( مافي مشكلة ) إلى ( الحزن المُطْبِق ) ،
و لثلاث ساعات و يزيد ، بدت و كأنها قد هيأت مشاعرها و ذاكرتها لهذا الرحيل الجَلَل منذ وقت مبكر ، وأنشأت تستعرض مسيرة ( وردي ) الغنائية ،
و هو يُناجي الحياة و أشواقَها ، بكل جميلٍ شهِييٍ مُرتجى ..
( يا أعزّ الناس
حبايبك نحن زيدنا قليل حنان
ده العمر زادت غلاوتو معاك
و صالحني الزمان
يا أحنَّ الناس حنان )
و تلك ( الكسكتة ) ذكرتني يوم أن سعيت للأخ ( طارق الأمين ) لإستضافة السندريلا ( نانسي عجاج ) ،،
و هما في طريقهما إلى القناة ، أفادني بأنها لن تضع غطاءً على رأسها فقلت له : ( طيب و العمل شنو ونحن كلنا حرص على هذا اللقاء ، لكن أقول ليك : أرجو إقناعها بأن تضع ” كسكتة ” ،
و أنتم في طريقكم إلينا ستجدونها في شارع الجمهورية ) ، فكانت تلك السهرة و التي تظهر فيها نانسي ( بالكسكتة ) ..
و ما كان ينبغي لي أن أتجاوز المذيعين المحاوِرين و المقدمين ،،
فقد إستقبلت يوماً دكتورة ( سلوى عثمان أحمد ، ) و عرفتني بمن كان برفقتها ، ( الطاهر حسن التوم ) ،
ولم يكن غريباً علي ،،
و ذكرت لي أن للطاهر برنامجاً بعنوان : ( أوراق ثقافية ) ، و هذا البرنامج بدلاً من ( تلفزيون الولاية ) ، يُفَضِّل أن يقدمه في النيل الأزرق ، فأبديت لهما موافقتي دون إبطاء أو تردد ،،
و بدأ البرنامج ، و الذي كان من ضمن ضيوفه ( بروف أحمد عبدالعال ) ،
و بعد الحلقة الرابعة ، طلبت من دكتورة ( سلوى ) الحضور ، و قلت لها : ( هذا البرنامج رتيب ، لو استبدله بآخر فيه حيوية و أخْذٌ و رَد و قومة نَفَس ) ، فقالت لي : ( قد لا يوافق أستاذ الطاهر على تقديم هذا النوع من البرامج ) ، فطلبت منها أن تعود إليه، و تعرض عليه هذا المقترح ، فجاءا إليَّ بالموافقة ، و بمقترح برنامج ( حتى تكتمل الصورة ) ، و كانَ ما كان ..
وسبقنا إلى الديار ..
حليف الإبداع ، و صائد المواهب من الأنْجُمِ و النُجيمات ،،
الأستاذ ( بابكر صديق ) ..
و صاحب الروائح الزَكِيَّة ، و الطلعة السَنِيَّه ، و الحُلل البَهِيَّة ،،
سِيْدِي الشيخ ( أحمد الخضر ) ..
و الباحثة عن الأهداف في مَراكِض المستديرة ، و قد كانت بذلك جديرة ..
الماهِرَة ( ميرفت حسين ) ..
و الشيخ ( محمد هاشم الحكيم ) ،،
و هو يُعَرِّف بقواعد الدين ، و ما أفتى به الفقهاء ، في الحلال والحرام ، و المكروه والمباح ، و القول الصراح في آداب النِكاح ..
و من تعاطى المكروه عمداً
غير شك يتعاطى الحرام ..
و هناك القُطب ( الشفيع عبدالعزيز ) ، يتعهد ( مودة حسن) بالسُقيا ، و (أحمد عربي) و يدفع( برانيا كمال الدين ) ، ويأتى ( بحاتم التاج ) و ( وشيبة الحمد ) من الإذاعة ، و آخرين ،،
و عندما أزمع ( شيبة ) الرحيل ، و كان يقدم ( أغنيات من البرامج ) ، جلستُ إلى ( الشفيع ) و أنشأنا نضرب أخماساً في أسداسٍ عمن سيخلفه ، فخطر ببالي الرصين ( مصعب الصاوي ) فراق المقترح ( للشفيع ) ، و بدأت مسيرة ( مصعب ) صعوداً ، حتى أدرك ( أغاني و أغاني ) بعد رحيل أُسْطُونِها ( السر قدور ) ..
و جاءتني نعمة عثمان من قون ،،
و حذيفة عادل من ( تلفزيون ولاية الخرطوم ) ،،
و ( سامر العمرابي ) زَكَّى لي ( حذيفة عبدالله ) ،،
و أقبلت علي (رشا الرشيد) و بصحبتها ( إسراء سليمان ) ، و التي انخرطت في التدريب ومن ثم المعاينات ، ضمن المجموعة التي تقدمها الخَلُوق ( محمد عثمان ) ،،
و كذلك ،،
الظريفة ( نهلة فضل ) ،،
و الوريفة ( فاطمة المصباح ) ،،
و الوليفة ( أسماء النعيم ) و أنا أشهد عقد قرانها ، إذ بوالدها يقول لي : ( دي بِتَّك أَعْقِد ليها ) ويُصِّر عليَّ أن أكون وكيلاً للعروس ، فأفعل ، وأنا في غاية الغِبطة و السرور ..
و معنا كانت بداية ( رفيدة يس ) في برنامج كل سبت ، من إعداد ( سوسن نافع ) و إخراج ( لؤي بابكر ) ، و (رفيدة) كنت أعرفها وهي لا تزال يافعة تقدم باقتدار كبار الأدباء و المفكرين ( بساقية عبد المنعم الصاوي ) الكائنة ( بحي الزمالك بالقاهرة ) ..
و منذ و قت مبكر كنت أرى في الصحفية ( ملاذ ناجي ) مشروع مذيعة
مُوَّلِعة ، فالناجحة من عشها زوزاية ،
و قد عرضْتُ عليها مرة أن توافينا بمقترح برنامج تقدمه ، إلا أنها لم تُبْدِي حماساً يومها ، و هاهي تطل من خلال ( قناة البلد ) ، و سيكون الغَدُ غدَها ، بس يا ( ملاذ ) ماتزنِقِي ( الضيوف ) شديد ..
و أنا أُحَدِّثُ حتى عن الأماني ..
تطلعت إلى ضم الصَبُوحة ( سهير عبدالرحيم ) ، و لكني في كل مرة كنت أتردد ، و أنا أرى إنغماسها في ( الbusiness ) ، و أنا بطبعي عندما أرى شخصاً ناجحاً في مجال ما ، فلا أُزيِّن له آخرَ ..
و ليت ذلك قد حدث ..
و قد كَتبتُ عنها يوماً ..
( إنها تُجَسِّد تحالف القوة و الجمال ..
تَلتَمِس عندها الجمال ، فتبدو لك القوة ، وتنشُد القوة فيأسرك الجمال ..
فلاتكونن بين يديها إلا وأنت ،،
مُضْطَرِبٌ ومُشَوَّش ..
مابين إقبال وإدبار .
وإطْلاقٍ وإمساك ..
جمالٌ محروس بالقوة ،
وهي ليست القوة الباطشه ،
ولكنها القوة التي عندما تَتَمادى ، تضع أمامك ( مَصَدَّاً ) يَحْمِلُ :
اِحترس !! أمامك شَلَّال ) ..
و هكذا ..
و كثيرون و كثيرات كان بودي أن آتي على بداياتهم و سيرتهم و مسيرتهم ،
و لكني أُمْسِك ، فقد أطَلْتُ و أسهبت ..
و الثناء موصول للجزلي ، إذ أن متعة الحديث عنه ، ساقتني إلى هذه الإطلالة ، من شُرفة الأمس القريب ، لأسرد وقائع ، قد يراها البعض صغيرة
و غير ذات أهمية ، و لكنها في نظري ذات أثر و تأثير ، إذ أن منها و بها تتشكل مسيرة الحياة ، في دورانها ، و في صعودها و هبوطها ..
و في النهاية كما قال ( علي شبيكة ) ..
( كُلو بِمْضِي
و كُلو بالأيام بِرُوح
لا سعيد دَامَّتْلُو فرحة
و لاحزين دَايِّملو نوح
لاهيَّة بينا الدنيا لاعبة
فيها نِتْغَرَّب نَتُوه ) ..
و أنا أهبط و أنطلق من منصة ( الجزلي ) الرحيبة الخصيبة ، الباعثة على استجلاء بدايات في خاطري ، لمذيعين رفرفوا في مَراقِي ( القنوات ) بأجْنُحٍ لها اصطفاق ،،
فمنهم من انطفأ ،،
و منهم من خَبَا ،،
و منهم من سار في طريق آخر ،،
و منهم من لايزال يزداد توَّهُجاً ولمعاناً ..
كنت أقول في كل مرة أنظر فيها بعين التمحيص إلى ناشئٍ أو شبلٍ أو شابة نشؤوا على التعلق بالتقديم و يقفون أمامي : أين سيكون مقعدهم من ( الجزلي ) و كَسْبِه و نَسْجِه و ترامي أغصانه !!
أين هم منه !!
في التَعَلُّم و التبَصُّر و التدبُّر ..
في الإستعداد و الإعداد و التهيؤ ..
في التنوع و الشمول
و في التدرج ..
و أجدني فخوراً بكثيرين ، أحسنوا صُنعاً ، و أسدوا جميلاً و نثروا جمالاً ، فمنحهم المشاهدون المُقل والآذان والأفئدة ، بعد أن آنسوا فيهم نُضجاً ، وسعياً دائباً نحو امتلاك ناصية التجويد ، و حُسن المباشرة ..
و هذا ما نعنيه بالقَبُول ، و هو الرضى
و المَيل ..
و لكني أجزم بأن لا أمل في ذلك الذي يعتقد أنه قد وصل وحاز ( الأستاذية ) فلاحاجة به إلى استزادة أو إعداد ..
أو تلك التي و هي في بداية طريقها ، عندما تُسْألُ عن مثلها الأعلى ، فلا تجد غير أن تجيب : ( أوبرا وينفري ) ..
و لا رجاء في من يجعل هَمَّه مظهَرَه ،
يهبه كل اهتمامه ، و ينفق عليه كل حيلته و وقته ، و هو خاوي و فارغ ،
ذلك أن المشاهد لا تعنيه كثيراً ألوان ( قوس قزح ) و رهابة ( الهِندام ) بقدر ما يجذبه وهَج الأفكار و حسن الكلام ..
و قد خاب من دأبه التراخي ، كأن يأتي و عقارب الساعة تشير إلى موعد بداية البرنامج و هو أسير شعور بالجاهزية
و الأهمية ، و هذا مدعاة للإضطراب ،
و الوقوع في الخطأ المركب ..
ففي أول عهدي ( بالنيل الأزرق ) كانت ضيفة السهرة الفنانة ( إيمان توفيق )
و بعد أن أَزِفَّ الوقت جاءت المذيعة المرموقة مسرعة لاهثة فقلت لمن كان يقف إلى جانبي : ( ستخطئ لا محالة ) ، و قد كان ، فبعد أن حيَّت المشاهدين ، إلتفتت إلى الضيفة و قالت : نرحب بالفنانة ( إيمان بركية ) !!
و أذكر ..
و أذكر ..
إن المذيع إلتزام ..
و إن المذيع عطاء ..
و إن المذيع حُضُور و حُضُور و حُضُور ..
و هكذا ( الدكتور عمر محمد عثمان الجزلي ) ،،
في التزامه ،،
و في عطائه ،،
و في حُضوره ،،
و لولا ذلك لما شهد تاريخنا المعاصر ، ذلك البرنامج الفريد ، و التليد ، و ذا الصِّيِت البعيد ،،
( أسماء في حياتنا ) ..
فقولوا لي بربكم !!
من غير ( الجزلي ) يستطيع أن يجمع في ( برنامج ) ، كل هذه الشموس و الأقمار
و الكواكب ، و بينها ما بين المشارق
و المغارب من تفاوت المراتِب و المَنازِل و المَنازِع و المَشارِب !!
( عبدالله الطيب ) ، ( دفع الله الحاج يوسف ) ، ( جعفر نميري ) ، ( عمر بليل ) ، ( الصادق المهدي ) ، ( عون الشريف قاسم ) ، ( حسين بازرعة ) ، ( محمد هاشم الهدية ) ، ( محجوب محمد صالح ) ، ( كامل إدريس ) ، ( ميرغني النصري ) ، ( علي شمو ) ، ( محمود أبو العزائم ) ، ( فاطمة أحمد إبراهيم ) ، ( الكابلي ) ، ( فيليب عباس غبوش ) ، ( حسن أبوسبيب ) ، ( فاطمة عبد المحمود ) ، ( عوض الله صالح ) ، ( ضرار صالح ضرار ) ، ( علي عبدالله يعقوب ) ، ( مأمون بحيري ) ، ( حواء الطقطاقة ) ، ( شيخ الدين محمد عبدالله) ، (صلاح أحمد إبراهيم ) ،
( الزين عباس عمارة ) ، ( داؤود مصطفى ) ، ( صلاح مصطفى ) ،
( صديق الضرير ) ، ( علي قاقرين )،
( جوزيف لاقو ) ، ( صديق مدثر ) ،
( أبو سن ) ، و ……..
و ( أبو آمنة حامد ) ..
( ما نسيناك جايي تعمل أيه معانا
بعدما بدلتنا
ما سقيناك أحلى ما في عمرنا
من عواطف
وما لقيناك
جايي تعمل أيه معانا !! )
عجيييييب ..
و لقد زرته قبل رحيله ، برفقة أخي المرحوم ( عوض محمد أحمد ) فوجدته طريح الفراش ، و قد هدَّه الداءُ ، فقَصَّ عليَّ من القَصَصِ و المواقف مالا أستطيع أن أبوح بها أو أُصرِّح ..
فلك كل المعَّزة ..
أيها العزيز ( الجزلي ) ..
و دعوةٌ مني ليُعزّ كلٌ منا عزِيزَهُ ،،
وليعز كل منا مَناطَ تعَلُّقِه و قبلة هواه ،،
على النحو الذي عبَّر عنه المرهف ( الطاهر إبراهيم ) ، و هو من تُحِبُ
و أُحِب ،،
وتغنى به الذري ( إبراهيم عوض ) و هو من تُحِبُ وأُحِب ،،
و هأنذا أُهْدِيك مما تُحِب و أُحِب ..
( بَهْرُب منك لرضاك
و بحاول من أجلك أنساك
أَمَهِّد ليك تتخلص مني
ألقى خُطاي تجمعني معاك
و لو تعرف عايش على عطفك
و كل حياتي من أملاكك
تعرف يوم في دنيا غيابك
يساوي سنين في دنيا هناكا
يا أعزَّ عزيز في دنيايا
أنا طامع أبقى عزيز دنياكا ) ..
ياسلاااااااام
قمة نكران الذات بتعَمُّد المُفارقة
و النأي ، ليبقى التلاقي الحمِيم قَدَراً جميلاً و مُستطاباً ..
أمَهِد ليك تتخلص مني
ألقى خُطاي تجمعني معاك ..
والسلام ..
حسن فضل المولى
أديس أبابا .. الأول من يونيو ٢٠٢٢ .