عضو سابق بـ”السيادة السوداني”: الشراكة مع العسكر “خطأ ساذج”
أقر محمد حسن التعايشي، عضو مجلس السيادة السابق في السودان والممسك بكثير من الملفات، وعلى رأسها ملف السلام، بأن ثمة أخطاء منها القتل، رافقت الفترة الانتقالية ما قبل انقلاب 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2021. واعتبر أن تقديرات المكون المدني لالتزام نظيره العسكري الشراكة كانت خطأ يرقى إلى درجة السذاجة السياسية.
ودعا التعايشي إلى الاتفاق على جبهة وطنية عريضة لإعادة المسار الديمقراطي بتكوين حكومة مدنية كاملة، والاتفاق على خريطة واضحة المعالم لبناء جيش وطني قومي واحد، وضمان إجراءات العدالة والعدالة الانتقالية، بعدما هُزم الانقلاب عملياً وسياسياً.
وكشف التعايشي في حوار مع “اندبندنت عربية” من مقر إقامته بلندن، أنه لم يكُن يتوقع من حركات الكفاح المسلح الموقعة على اتفاقية السلام هذا التحول الغريب الداعم لانقلاب 25 أكتوبر.
كيف يعود التحول؟
عن نظرته إلى إمكانية وكيفية استعادة ذلك التحول، على خلفية ما يدور الآن من حوار شاق ومعقد، بعد أن خسرت البلاد وقتاً ثميناً لإنجاز تحول ديمقراطي سلس، أوضح أن “انقلاب 25 أكتوبر هُزم عملياً وسياسياً”، وقال إن “الانقلاب احتج على سيطرة أحزاب محددة على المشهد، لكنه انتهى إلى سيطرة رجلين لا يتفقان إلا على الخوف من المستقبل، واحتج كذلك على الضائقة المعيشية وضيق الحياة على المواطنين وانتهى إلى دولة بلا حكومة ولا موازنة ولا رؤية”.
وحول فهمه ومدى توقعه لموقف حركات الكفاح المسلح الموقعة على اتفاق جوبا الداعم الانقلاب، لأنه كان الأقرب لملف السلام من الشق المدني في مجلس السيادة الانتقالي السابق، قال إن “الشعب السوداني سينتصر لثورته تماماً مثلما أسقط أعتى الشموليات من قبل، لكن سيكتشف قادة الحركات إن لم يكونوا قد اكتشفوا بالفعل، أنهم الخاسر الأكبر من هذا الانقلاب. وبالقطع، لم أكُن أتصور أو أتوقع أن تشارك الحركات المسلحة في انقلاب ضد حكومة وقّعت معها على اتفاق عالج معظم قضايا التفاوت التنموي وقضايا الريف السوداني ونظام الحكم والعدالة الانتقالية والنازحين واللاجئين وغيرها من المواضيع الجوهرية، بل وأوجد لها وضعية رئيسة في حكومة الفترة الانتقالية”، مؤكداً “لكنني لم أتوقع أبداً هذا التحول الغريب”.
الغنائم والمكتسبات
وأشار التعايشي إلى أن قادة الحركات المسلحة اختاروا الانحياز للغنائم اللحظية، عوضاً عن السلام كقيمة وحقوق ومكتسبات لشعوب الريف السوداني العريض، وتناسوا أن اتفاقية جوبا صُمّمت على أساس نظام ديمقراطي يستحيل أن تطبق في ظل نظام انقلابي شمولي، لافتاً إلى أنه بعد عام تقريباً من الانقلاب لا نحتاج إلى دليل لنذكّرهم بالجرم الذي ارتكبوه بحق الثورة وحق ضحايا الحروب الذين يتوقعون التزاماً صارماً بتنفيذ الاتفاق، وبضرورة الحفاظ والدفاع عن حكومة الثورة، التي جعلت الاتفاق ممكناً. لا بد من أنهم يتذكرون المقولة الشعبية الشائعة ’أكلوا التيراب قبل الخريف‘، أي أكلوا البذور نفسها التي كان ينتظر بذرها في الخريف لتنبت”.
وعن رؤيته لمدى فاعلية البعثة الأممية المتكاملة لدعم التحول الديمقراطي (يونيتامس)، في أداء مهمتها منذ وصولها حتى قبل الانقلاب، قال التعايشي إن “المجتمع الدولي ومؤسساته عموماً دعمت الانتقال الديمقراطي دعماً معقولاً، خصوصاً في ملف إعفاء الديون ورفع العقوبات والانفتاح على النظام الاقتصادي العالمي، وكان من المؤمل فعلاً أن تقوم البعثة بمساعدة السودانيين في الانتقال الديمقراطي بالبلاد. ولولا الانقلاب المشؤوم، كان يمكن للبعثة أن تساعد في تنفيذ وإكمال عمليات بناء السلام، والدعم الفني لإنشاء المفوضيات المستقلة والتحضير لإجراء الانتخابات والتعداد السكاني ومراقبة عمليات وقف إطلاق النار”.
وأوضح عضو مجلس السيادة السابق أن الولايات المتحدة والسعودية يمكنهما أن تلعبا دوراً مهماً في دعم الإرادة الوطنية لإنهاء الانقلاب، وبناء بديل وطني يضع الانتقال الديمقراطي في منصته الجديدة، إذ أصبح من المؤكد أن لا خيار أبداً للعودة إلى الشراكة التي كانت قائمة قبل الانقلاب، بل لا بد من إقامة حكومة مدنية كاملة، والاتفاق بوضوح على إجراءات بناء جيش وطني قومي وتحديد علاقته بالسياسة.
أخطاء وحلول
وفي ما يتعلق بالصيغة التي يمكن أن تشكل مخرجاً، وتبطل الواقع الذي أسسه الانقلاب، وتعيد التحول الديمقراطي (الثوري) مجدداً، بخاصة في ظل رفض كل من العسكريين والحرية والتغيير (المجلس المركزي) لأي شراكة جديدة، يعتقد التعايشي أن هذه المناقشات لا ترمي إلى العودة للشراكة القديمة، لكنها تؤسس لانتقال جديد يعالج التناقضات التي صاحبت الشراكة السابقة مع العسكريين، وتنتهي إلى تشكيل حكومة مدنية كاملة والاتفاق على بناء جيش قومي واحد يحدد دوره في حماية الدستور الديمقراطي، إضافة إلى مهمات الجيوش المعلومة، هذا ما ترمي إليه المناقشات ما بين الحرية والتغيير والمكون العسكري. وأضاف “أنا شخصياً غير مستعد لدعم أي عملية سياسية تقوم على الشراكة بين العسكريين والمدنيين. لقد كنت جزءًا من تلك التجربة التي انتهت وقبرت بالانقلاب عليها من الطرف العسكري، على الرغم من تحفظاتنا على تلك الشراكة، إلا أننا تعاملنا معها بصدق ومبدئية لا لشيء سوى أن نمنح بلدنا فرصة للانتقال بعد كل الحلقات الشريرة التي شهدها شعبنا. نتحمل بكل شجاعة أخطاء تلك التجربة وإن أعيدت عقارب الساعة إلى الوراء، فأنا شخصياً لن أكون جزءًا منها، بل وأعتذر عن أي خطأ صاحبها”.
بسؤاله المباشر عن أكبر أخطاء الفترة الانتقالية ما قبل الانقلاب في تقديره، لا سيما تلك القاتلة، أجاب أن “أي تجربة إنسانية قابلة للخطأ والصواب، لكن الحكمة تكمن في الاعتراف بها والاعتذار عنها وعدم تكرارها، فالأخطاء التي لا تورث الحكمة، لن تغتفر”. وقال إنه سبق أن نادى بضرورة الاتفاق على آلية وطنية ومنهجية محددة لتقييم تجربة الفترة الانتقالية تقييماً حقيقياً وصادقاً وبمنهج مختلف، لكن “يجب أن نعترف مبدئياً بأن تأخير تكوين المجلس التشريعي الانتقالي، وتأخير تشكيل المحكمة الدستورية ومجلس القضاء الأعلى ومجلس النيابة العامة، وعدم تسليم المطلوبين إلى المحكمة الجنائية وتأخير قيام مؤتمر نظام الحكم والإدارة وعدم إنشاء المفوضيات المستقلة، لا سيما مفوضية العدالة الانتقالية ومفوضية إصلاح الخدمة المدنية، هذه أخطاء جوهرية نتحملها بكل شجاعة. وفوق كل ذلك تقديراتنا لالتزام المكون العسكري الشراكة كانت خطأ يرقى إلى درجة السذاجة السياسية”.
وعن المطلوب من القوى السياسية في هذه المرحلة، خصوصاً أن البلاد لم تعُد تحتمل وتنحدر بسرعة كبيرة إلى المجهول، قال التعايشي “صحيح البلاد تتدحرج بسرعة غير مسبوقة نحو الهاوية، لأن الانقلاب كان أكبر قفزة في الظلام في تاريخنا السياسي الحديث، وإن كانت هناك حسنة من الانقلابات العسكرية أصلاً، فإن الانقلاب أثبت عدم إمكانية نجاح أي تجربة انقلابية بعد ثورة ديسمبر، وإن الذين خططوا ونفذوا هذه الحماقة أو الذين دعموها دفعوا الثمن السياسي الآن وسيدفعون الثمن في المستقبل”.
التعايشي أكد أن “العلاج الوحيد هو هزيمة الانقلاب وتشكيل حكومة كفاءات مستقلة وبناء جيش قومي واحد ملتزم بالدستور الديمقراطي وبعيد من ممارسة السياسة، والاتفاق على نظام انتخابي عادل وإجراء تعداد سكاني وتنفيذ وإكمال السلام إلى نهاية المهمات التي أسمّيها إجراءات هزيمة الانقلاب وحزمة مهمات الانتقال الجديد”.
العالم والأزمة السودانية
وفي شأن المعادلة الدولية الجديدة ما بعد الحرب الروسية – الأوكرانية وظلالها على المشهد السوداني، بخاصة بعد زيارة نائب رئيس مجلس السيادة الفريق محمد حمدان دقلو إلى روسيا مع بدايات الحرب، قال التعايشي إن “السودان بلد مهم واستراتيجي ولا يصح أبداً أن تُشكَّل تحالفاتنا الإقليمية والدولية بهذا الاندفاع الغريب، يجب أن نتوافق على مؤتمر قومي نتفق فيه على مصالحنا والمبادئ التي نقيم علاقاتنا الخارجية على ضوئها، وليست سياسة رزق اليوم باليوم أو سياسة المحاور التي شاهدناها بعد 25 أكتوبر، وليس هناك مجال لتجيير الرصيد والدور السوداني لا لمصلحة فرد أو مؤسسة أو جماعة”.
واستطرد عضو مجلس السيادة السابق، “أذكر مناقشاتي في الأيام الأولى للانقلاب مع الأميركيين ودول الترويكا، وكيف أنهم كانوا مستعدين ومتحمسين لدعم الشعب السوداني في هزيمة الانقلاب. وقد كتبنا ورقة مهمة وقتها مع الدكتور نصر الدين عبد الباري وزير العدل، والدكتور أديب يوسف والي وسط دارفور، حوت خريطة الطريق المطلوبة للعودة إلى المسار الديمقراطي، والدور المتوقع من المجتمع الدولي، تحديداً أعضاء الترويكا الذين لعبوا لاحقاً دوراً مهماً، خصوصاً أميركا، في عزل الانقلاب ودفع الأطراف إلى إنهائه، وفوق كل ذلك ما كان الاتفاق أن يهزم لولا نضالات وتضحيات ودماء الشهداء من أبناء وبنات الشعب السوداني”.
الإسلاميون والانتخابات
وعن السبب الرئيس وراء انقلاب البرهان، وما يتردد عن علاقته بصفقات سرية مع الإسلاميين، قال التعايشي إن “معظم الملفات التي كانت محل اختلاف جوهري وتم تأخيرها عن قصد كانت على وشك إنجازها، على سبيل المثال، تسليم المطلوبين إلى المحكمة الجنائية، قرب أجل انتقال الرئاسة إلى المدنيين، تفكيك نظام الثلاثين من يونيو، وبدء المناقشات حول تنفيذ الترتيبات الأمنية وبناء جيش واحد بحسب ما نص عليه اتفاق جوبا، هذا إضافة إلى التقاطعات الإقليمية، وكذلك التطلعات غير الموضوعية لبعض الشخصيات”.
وأضاف “طبعاً الإسلاميون وراء كل هذه السيناريوهات، وقد مهدوا لذلك بخطابات التخوين الكاذبة والحملة ضد المدنيين وتصويرهم بأنهم الأضعف وأنهم سبب الأزمة. وللأسف، هذا الخطاب الممنهج سرى كالنار في الهشيم حتى وسط المناضلين الحقيقيين الذين نعرفهم ونعرف تاريخهم”.
وفي ما يخص الانتخابات المبكرة وما إذا كانت قد تشكل بأي حال مخرجاً من الأزمة الراهنة، يرى التعايشي أن “الانتخابات المبكرة والدعوة لها حق أريد به باطل، وهي محاولة للتهرب من استحقاقات ومطالب التأسيس الصحيح للدولة السودانية، ولا مجال لانتخابات من دون إكمال السلام مع حركات الكفاح المسلح الأخرى، وتنفيذ الترتيبات الأمنية، وتحول هذه الحركات إلى تنظيمات مدنية، إذ لا مجال لحركة أن تخوض انتخابات وهي تحمل سلاحها على يمينها، إضافة إلى عودة النازحين واللاجئين إلى مناطقهم الأصلية كما نصت اتفاقية السلام، ثم تحديد نظام الحكم وهياكله ومستوياته وحدود وحداته الإدارية وسلطات كل مستوى. لذلك، فإن أي انتخابات قبل هذه الإجراءات الضرورية تعني ببساطة الفوضى”.
لم أهرب
وعن تفسير البعض مغادرته للسودان بأنها هروب، قال التعايشي “لم أغادر السودان إلا قريباً، وكنت موجوداً في البلاد طوال الفترة الماضية، ولست خائفاً من أحد أو مطلوباً من أحد أيضاً. غادرت السودان لظروف أسرية خاصة، وانضممت إلى ملايين السودانيين الذين كنت واحداً منهم منذ عشرة أعوام، أقوم بكل ما هو ضروري وممكن لمساعدة بلادي للخروج مما هي عليه وعودتها إلى مسارها الديمقراطي”.
وعن مليونيات الخميس 30 يونيو 2022، التي تحبس البلاد أنفاسها طويلاً انتظاراً وتحسباً لها، في ظل الأزمة القائمة والاستنفار المكثف للأجهزة الأمنية، دعا عضو مجلس السيادة السابق، “الأجهزة الأمنية إلى الالتزام بحماية التعبير السلمي المدني لشعبنا وعليها أن تفكر ألف مرة قبل أن تستخدم العنف، إذ من بين دروس كثيرة تعلمناها من ثورة ديسمبر، أن لا يمكن قهر إرادة الشعب، وإن امتلكت القوة المميتة، وقد قال السودانيون كلمتهم ضد الانقلاب منذ أول يوم وفي 30 يونيو سيقولون كلمتهم وهي الأخيرة، وأرجو أن يتم الاستماع إلى صوتهم بأن يعود العسكر لثكناتهم، وتشكيل حكومة مدنية من كفاءات مستقلة، وتنفذ مهمات الانتقال الديمقراطي والتحضير والإشراف على انتخابات عامة في البلاد”.
جمال عبد القادر البدوي
اندبندنت عربية