هل يطفئ هدير النيل الأزرق صراع الهوية في “الأنقسنا”؟
تحولت منطقة “الأنقسنا” إلى بقعة ملتهبة من إقليم النيل الأزرق الذي يحتضن نحو 40 قبيلة، وأصبح الإقليم المتاخم والمرتبط بحدوده الجنوبية مع دولة “جنوب السودان” بعد انفصالها، وما وراء هذه الأحداث في المنطقة متعددة الإثنيات والأديان والألسنة، أسباب كامنة منذ أن كانت هذه المنطقة مغلقة وفقاً لسيادة “قانون المناطق المقفولة” الذي فرضه الاستعمار الإنجليزي في السودان في الفترة من عام 1921 إلى 1932 وشمل إضافة إلى منطقة “الأنقسنا”، جنوب السودان وجبال النوبة، وفرض القانون الفصل التام بين السكان الشماليين والجنوبيين، وشجع استخدام اللغة الإنجليزية واللغات المحلية للتخاطب بين الجنوبيين، ومحاربة الإسلام واللغة العربية، وعدم استخدام الأسماء والعادات العربية بما في ذلك الزي الشمالي، كما عمل على تشجيع التجار “الأغاريق” وغيرهم من جنسيات مختارة للعمل في الجنوب، وأسهم ذلك في تخلف وعزلة المنطقة عن بقية السودان، ومنذ ذلك الوقت والمنطقة المنعزلة، التي يشقها النيل الأزرق، تجاوزتها الحكومات الوطنية وقفزت لاعتبارات جيوسياسية عليها لحل مشكلة الجنوب من دون أن تشملها، فظلت تعيش نزاعات مكتومة بسبب الموارد والتعدي على مناطق الزراعة والرعي.
و”الأنقسنا” اسم أطلقه العرب على المجموعات التي تقطن المنطقة الجبلية ما بين النيلين الأبيض والأزرق، وباشتراك عديد من القبائل في هذه المنطقة فإن الاحتكاك يتولد عند تداخل المسارات الرعوية شمالاً وجنوباً، كما تتداخل المناطق الزراعية والاشتباكات في مواسم الحصاد، ما دعا السكان إلى ابتداع طقوس خاصة مقدسة عند الحصاد تسمى “جدع النار” للحيلولة دون هذه التعديات. وإذا كان المكان يمثل صيغة مشتركة للأنشطة الاقتصادية التي يعتمد عليها السكان في معاشهم، فإن التباين والاختلاف يظهران في أصول هذه القبائل وعاداتها وتقاليدها وفنونها، وكما يوصف الواقع غير الحميم في مناطق أخرى من السودان، طغت عليها النزاعات القبلية والإثنية المسلحة، فإن منطقة “الأنقسنا” لا تبعد عن هذا الوصف الذي كشفت عنه دوامات الوعي الباحث عن الهوية.
منطقة منعزلة
تاريخ المنطقة يثبت اتكاءها على سلسلة من الحروب والانتصارات والخيانات، فقد أُسست مملكة “الفونج” في عام 1504، واستمرت إلى عام 1821 نتيجة لتحالف بين قبائل “الهمج” الزنجية في جنوب شرقي النيل الأزرق بقيادة عمارة دنقس، وقبائل “العبدلاب” أو “الجموعية” العربية بقيادة عبد الله جماع، وكانت تعرف أيضاً بـ”السلطنة الزرقاء” و”الدولة السنارية”، وجاء في “حكايات من مقاطعة الفونج” التي كتبها ليونارد فيلدنغ نالدر الحاكم البريطاني لإقليم “الفونج” في الفترة من عام 1927 إلى 1930، واصفاً الصراع في القرنين السابع عشر والثامن عشر بين قادة “الفونج” من أصول زنجية وعربية، بالتطرق إلى ممارسة “الهمج” السحر لتوطيد حكمهم وإطاحة ـ”الجموعية”، وتتبدى في كتاباته عوالم السحر والأعشاب التي سخرها “الهمج” بمعاونة قبائل “الهوسا” من أجل توطيد حكمهم وإزاحة مناوئيهم منه.
وذكر تاج السر عثمان الباحث في التاريخ الاجتماعي للسودان ما أشار إليه المؤرخ نعوم شقير بأن “منطقة الأنقسنا في فترة الحكم التركي والمهدية ظلت من مناطق صيد الرقيق، ما أدى إلى احتماء سكانها بالجبال، بالتالي أصيبوا بالعزلة والتخلف واحتفظوا بكريم معتقداتهم وعاداتهم وتقاليدهم كما اعتنق بعضهم الإسلام منذ أيام الفونج”. أضاف، “كانت الأنقسنا تمد كل مملكة سنار بالذهب والعسل والجلود والبغال والسياط والريش والسمسم والرقيق، وهي من أهم مصادر تراكم رأس المال التجاري لسلاطين الفونج وكانت تمدهم بالرقيق والذهب”.
انحيازات قبلية
ويكشف تاريخ المنطقة الاجتماعي خلال العقود السابقة عن تراث ثقافي وفني، وهو ما طغى على غيره، فحين تذكر “الأنقسنا” يتبادر إلى الذهن هيمنة فن الرقص والموسيقى بمكوناتها وسماتها ومقوماتها من دون تنقيتها من تأثير الانحيازات القبلية، فالبعض يجر المنطقة إلى أصلها الزنجي وبعضها يعود بالجغرافيا إلى تكون مملكة “الفونج”، وأثر الهجرات العربية إليها، وكلا التيارين يرى أن المنطقة واجهت أنماطاً متوحشة وتأثيراً سلبياً في مفهوم المواطنة من التيار المقابل، كما كان للنظم الحاكمة منذ الاستعمار دور في تجريد المنطقة من أصلها وتصفية تاريخها القديم، جراء عدم القبول بها كمنطقة تماس متجاذبة بين الشمال والجنوب، ثم نشأ الصراع على السلطة والثروة بين النظام الحاكم السابق والحركة الشعبية لتحرير السودان التي تعتقد أن هذه المنطقة امتداد لها، فواجه إقليم النيل الأزرق نهجاً استبدادياً من الطرفين، سعى إلى تطويق وجوده وكبح سعيه من أجل إبراز أصل مكوناته القبلية، ويدل على ذلك بقاء إقليم النيل الأزرق في التصنيف السياسي ملحقاً ضمن اسم “المنطقتين” وهو التعبير المقصود به (منطقة جبال النوبة، جنوب كردفان، وإقليم النيل الأزرق) معاً، لتقاربهما الجغرافي وتشابههما في ثراء قومياتهما وتنوعهما الإثني والديني والثقافي.
إرث تاريخي
ويذكر عبد الحميد علي مستشار وزارة الثقافة والإعلام، “ازدهرت مملكة الفونج وعمادها من الفونج المختلف حول أصولهم، فمن المؤرخين من يرون أنهم من قبيلتي البرنو أو الشلك الزنجيتين، ومن يرى أنهم من العبدلاب الذين يعودون بأصولهم إلى العنصر العربي، وتأسست في المنطقة من مدينة سنار إلى الروصيرص، واتكأت الأنقسنا الحالية على الإرث التاريخي للمنطقة، وظهر ذلك في أسماء زعماء الإدارة الأهلية التي تبدأ بلقب (المك) وتعني (الملك)، وآخر المكوك هو المك يوسف عدلان مك عموم الفونج خلفه الآن ابنه الفاتح”. ويضيف علي، “والفونج مجموعة قبلية كبيرة تضم الهمج، والوطاويط، والبرتا، والأنقسنا، وغيرهم، وهي مجموعة صاحبة الأرض والسلطنة والمكوكية، وفي جنوب المنطقة مجموعة البرون، وهم من إقليم أعالي النيل، جنوب السودان، والأنقسنا فيهم مسلمون ومسيحيون وديانات روحانية وأفريقية”.
ويؤكد مستشار وزارة الثقافة والإعلام “تميز قبائل المنطقة بحرف يدوية كصناعة الفخار والسعف وأدوات الزراعة والرعي والحرب”. ويوضح، “الأنقسنا منطقة غنية يعبرها النيل الأزرق، وهي كثيفة الأمطار والغابات وتكثر بها الزراعة على النيل والزراعة المطرية، إضافة إلى ثرواتها المعدنية ومنها معدن الكروم، ونظراً إلى هذا الثراء في الموارد، اجتذبت المنطقة عديداً من المجموعات القبلية الأخرى، منها العرب الرعاة، والجلابة (تجار الشمال)، والأمبررو من غرب أفريقيا، ومجموعة الهوسا، وهي ليست حديثة العهد بالمنطقة، وإنما منذ زمن الفونج، ومتعايشة مع سكان المنطقة، ولأن عملهم الأساسي بالزراعة، فإنهم يعدون عماد الاقتصاد الزراعي في المنطقة”.
صراع الهوية
يضيف علي، “النسيج الاجتماعي لإقليم النيل الأزرق متباين عرقياً وحاضرة فيه القبيلة بنظاراتها المكونة من الإدارة الأهلية، ونظارات الفونج، والأنقسنا، وفازوغلي، والبكي، وقلي”. ويؤكد أنه “لم يكن هناك صراع على الهوية من قبل في منطقة النيل الأزرق، وهذا أول نزاع قبلي كبير وقع بين الهوسا والهمج، وأسبابه سياسية بتأليب بعض العناصر السياسية لقبيلة الهوسا وإقناعهم بأن تكون لهم إمارة، وهذا جاء ضد تيار المنطقة القائم على المكوكية، وهي أكبر سلطة للإدارة الأهلية، ويأتي بعد المك العمدة والمشايخ والنظارات. والمك موجود على رأس الإدارة الأهلية، وتوجد لدى المجموعات الأخرى العربية والفلاتة والجلابة مشايخ”، ويتابع، “ما حدث انعكاس لسياسة الحركة الشعبية لتحرير السودان (شمال) التي دخلت إلى المنطقة في بداية الثمانينيات ثم تسليحها بعض قبائل المنطقة، وأجج الوضع هناك مالك عقار عضو مجلس السيادة الانتقالي وقائد الحركة الشعبية لتحرير السودان في المنطقة، وهو من أبناء الأنقسنا، إذ نصب ابن أخته حاكماً للإقليم، ويقال إنه بدأ يفقد عناصره وحاول إقناع الهوسا بأن تكون لهم إمارة”.
ولكن الحركة الشعبية لتحرير السودان (شمال) “جناح مالك عقار” نفت ما يتردد من اتهام لها بتأجيج الوضع، وأعلنت عن اتجاهها إلى اتخاذ إجراءات قانونية ضد الحزب الشيوعي في إقليم النيل الأزرق على خلفية اتهامه للحركة بتأجيج الصراع في الإقليم، وصدر بيان من السكرتير العام للحركة الشعبية في الإقليم الشيخ الدود بخوت بأن “على الحزب الشيوعي إثبات أن الحركة قد منحت الهوسا إمارة أو الاعتذار علناً عن هذا الافتراء”. وبررت الحركة الشعبية اتهام الحزب الشيوعي لها بأنه “كان يقف منذ البداية ضد اتفاقية جوبا للسلام الموقعة في الثالث من أكتوبر (تشرين الأول) 2020، وأن الحزب الشيوعي متحالف مع كيانات تدعو إلى حق تقرير المصير والانفصال عن البلاد”.
“جدع النار”
ويسرد المستشار بوزارة الثقافة والإعلام أن “من عادات المنطقة عادة جدع النار التي تبدأ قبل موسم الحصاد، وهو طقس وجزء من الفلكلور والثقافة الأفريقية تمارسه قبيلة البرتا، كبرى الجماعات العرقية التي تستقر في مرتفعات الأنقسنا منذ زمان بعيد”. ويوضح، “إضافة إلى العزلة التي فرضها المستعمر على المنطقة فإن أفراد البرتا استمروا في تلك العزلة التي تعززها معتقداتهم بأن لا يحتووا الغرباء لأنهم يحملون أرواحاً شريرة تصيبهم بالهلاك، ما جعلهم يبتعدون عن الاختلاط بالقبائل المحاذية لهم”. ويشرح علي طقس “جدع النار”، “يبدأ الاستعداد للطقس السنوي في أكتوبر من كل عام، بتجهيز الآلات الموسيقية وأشهرها الوازا، وهو بوق طويل، والنقارة وهي الدفوف، وآلات محلية أخرى، وتوقد النار لمدة شهر كامل، وفي الليلة الأولى تعزف الفرقة ليشارك الجميع في الرقص طوال الليل أمام منزل الشيخ المسؤول عن عادة جدع النار، ويعين لمدة شهر واحد بصلاحيات شيخ القبيلة، وفي الصباح، يخرج الشيخ يحيط به حراسه من القبيلة وأبناؤه وهم يرتدون زياً واحداً مختلفاً عن البقية، عبارة عن قماش أبيض يربط في وسط الجسد ويرفع إلى الكتف ليتدلى من الأمام، يمرون وسط الجموع ليأمروا بتفقد المحصول لدى الفريقين، فحتى لو نضج محصول أحدهم لا يحصد حتى ينضج محصول الفريق الآخر”. ويتابع علي، “بعد ذلك، يأخذ الشيخ حجراً ليرمي به النار في اتجاه الشرق، ويتبعه الراقصون بإلقاء الحجارة على النار في الاتجاه ذاته، اعتقاداً بأنهم يقتلون الأرواح الشريرة الخارجة من الموتى، ثم تتسع حلقة الرقص لتشمل آخرين، وعندما يشتد الإيقاع تشتد أيضاً الصيحات بترانيم وتعاويذ محددة تسمى الهيتالي. وفي الليلة الأخيرة من الشهر، هناك طقس (فك جدع النار) تختتم به الاحتفالات، حيث يجتمع أفراد قبيلة البرتا أمام منزل الشيخ حاملين ملابسهم وأدوات الاحتفال والرقص التي شاركوا بها خلال الشهر، ويضعونها أمامه ليضرم النار فيها اعتقاداً منهم أنهم حرقوا الأرواح الشريرة. وبهذا تنتهي سلطة شيخ جدع النار لتعود السلطة إلى شيخ القبيلة”.
هيمنة الرقص
وذكرت علوية يوسف الباحثة في تراث النيل الأزرق أن “منطقة الأنقسنا غنية بالتراث الثقافي، وأبرز معالم المنطقة الرقص والموسيقى التي تهيمن على بقية الفنون، وهناك مجموعة من الآلات الموسيقية التقليدية مثل آلات النفخ والمزامير تؤدى بها الرقصات والطقوس، مثل الوازا، والدلوكة (الطبل)، وهناك القرن، وهو يصدر صوتاً معروفاً ليجتمع أهل المنطقة ويستمعون للإعلان عن زواج أو وفاة أو زيارة مسؤول”. أضافت، “لكل مجموعة قبلية تراث خاص بها يختلف عن المجموعات الأخرى. وهناك أيضاً اختلاف في الزي والزينة عند كل مجموعة، فبعض القبائل تعتمد على الأزياء المزينة البسيطة، وبعضها يعتمد على الزينة المعقدة والألوان الزاهية”.
إندبندنت