حيدر المكاشفي يكتب: ذباب وبعوض ومياه عكرة
للعاصمة الخرطوم علاقة سيئة جدا بفصل الخريف، وفشلت كل الحكومات المتعاقبة عليها في اصحاح هذه العلاقة حتى يوم الخرطوم هذا، فما ان يطل الخريف وتهطل أول مطرة، تتطمبج الخرطوم وتمتلئ طرقاتها بالمياه الراكدة والطين والخبوب والوحل وتنتشر البرك الآسنة بين الأحياء، وتتوفر بذلك البيئة الحاضنة والمفرخة للذباب والبعوض والهاموش والناموس وغيرها من الحشرات الطائرة والزاحفة، ويزداد الأمر سوءا على سوئه بتحالف عكورة المياه مع جيوش البعوض والذباب وما تسببه من أمراض، هذه الثلاثية المزعجة التي تتناوب النشاط لاقلاق راحة الخلق، فمنذ الصباح الباكر والى مغيب الشمس تسيطر جيوش الذباب على العاصمة وتتولى مهمة الازعاج واقلاق الراحة، وازعج ما يسببه الذباب هو تلك الثقالة والرذالة المعروف بها، فمهما هششته وطردته فلن يرعوي بل يعود بالحاح لاضجارك، ولهذا قيل أنه ما سمي ذبابا الا لأنه كلما ذبه الإنسان عنه وأبعده فإنه يعود إليه (فالذباب اذا ذب آب)..أما البعوض أجاركم الله فهو يستلم الوردية الليلية من الذباب وتتفنن أنثاه المتخصصة في ايذاء الناس بامتصاص دمائهم، ومضايقتهم بلذعاتها المتكررة وطنينها المزعج، وعادة ما تبدأ غاراتها تحت جنح الظلام وفي أجواء الكتمة، وما يستتبع ذلك من انتشار للأمراض المرتبطة بسوء الأحوال البيئية وتلك المرتبطة بالمياه، مثل الملاريات وغيرها من الحميات والإسهالات المائية والنزلات والالتهابات المعوية الخ، ومع ضعف امكاناتنا الصحية سيزداد الحال ولا شك سؤا على سوئه..وللأسف رغم هذا الوضع المزعج الممرض لم نشهد أي تحرك للولاية حتى الان لمكافحة الذباب والبعوض وتنقية المياه من العكورة ما ينذر بخطر كبير.. وعن مثالب ومضار عكورة المياه ،يحضرني بيت الشاعر الجاهلي عمرو بن كلثوم في حوالى عام 584م أى بالتقريب قبل ألف واربعمائة وست وعشرين سنة بالتمام والكمال، في معرض تباهيه بعزة قومه وتفاخره بعلو شأنهم وكعبهم، (ونشرب إن وردنا الماء صفوا ويشرب غيرنا كدرا وطينا)، انما كان يقول منذ ذلك الزمن السحيق، الذي يقوله الآن العلماء والخبراء في القرن الواحد وعشرين، ان الماء الصحي النظيف هو ليس فقط حق من حقوق الانسان الضرورية انما هو كذلك من دلائل العزة والمنعة والسيادة والريادة واحد العوامل المهمة في قياس مدى تقدم الدول والشعوب، وبالمقابل فبقدر ما تتدنى خدمات المياه النقية والصحية الخالية من الملوثات تتدنى معها مكانة البلد في سلم التطور والرقي، فالمياه الملوثة بما تسببه من امراض متعددة تعد بلا جدال احدى مقعدات الشعوب، بل انها كما تقول احدى الاحصائيات العلمية تؤدي إلى وفاة حوالي اربعة آلاف وخمسمائة نفس يوميا حول العالم، ومن المعروف في الاوساط الطبية والصحية في السودان ان الامراض المنقولة بواسطة المياه (Water Borne Diseases) مثل الملاريا والتيفويد والبلهارسيا والكوليرا والتهاب الكبد الوبائي والدوسنتاريا والتسمم وغيرها من اكثر الامراض شيوعا في السودان وذلك لعلاقتها بتردي البيئة وتدني مستوى الخدمات، والمعادلة الطبيعية تقول ان المرض والانتاج يتناسبان تناسبا عكسيا، كلما زاد عدد المرضى قل الانتاج او في احسن الاحوال تدنت جودته، فالمريض حتى وإن باشر العمل فلن ينتج مثل الصحيح المعافى، لا كماً ولا كيفاً، ولا اعتقد ان احدا يجادل في ذلك أو يكابر فيه..
صحيفة الجريدة