سن اليأس… أعمار النساء بين “المتفق عليه” و”المسكوت عنه”
يقولون إنها موضوعات نسائية خاصة لا مجال لتدخل الرجال فيها علماً أو إحاطة، لكن لأنها تؤثر في نساء الأرض كافة فإن الآثار تلقي بظلالها على كل شعوب الأرض من دون استثناء، انطلاقاً من أن المرأة وثيقة الصلة بالرجل في الأسرة والعمل والشارع وأماكن الترفيه. وينتاب الجميع الحرج من مجرد الإشارة إليها، على الرغم من معرفتهم أنها أحد مظاهر الطبيعة الحية.
لكن الطبيعة حين تتعلق بالمرأة تتحول عيباً لا ينبغي المجاهرة به، أو وصمة يجب نفيها، أو تفاهة لا تستوجب البحث والتحليل والفهم.
عرق غزير
فهم ما ظلت تتعرض له على مدى أشهر من دون أن تعي ماهيته لم يكن سهلاً. تستيقظ من النوم ليلاً وهي غارقة في عرق غزير على الرغم من طقس الشتاء البارد. تقنع نفسها أن الغطاء ربما كان ثقيلاً أكثر مما ينبغي. تشعر بسخونة عارمة تتدفق فجأة صوب صدرها ورأسها بينما تتحدث إلى عميل في البنك. تحاول التظاهر بأن الأمور طبيعية، لكن حبات العرق التي بدأت تسيل على الورقة أمامها دفعت العميل إلى إخراج منشفة ورقية لتجفيفها. تدخل في نقاش حول عطلة نهاية الأسبوع مع زوجها، وفجأة تشعر بتوتر عارم وعصبية تجعلها تتهمه بالبلادة والسخافة من دون مبرر أو سابق إنذار.
تلك وغيرها أعراض ظلت تداهم سهام (42 سنة) وهي لا تدرك أن ما تتعرض له ما هو إلا هبات ساخنة. ولأن الهبات الساخنة أو الحرارية المرتبطة بسن انقطاع الدورة الشهرية أشبه بـ”محطة المطار السري” الذي يعرف الجميع اسمه وموقعه لكن أحداً لا يعرف ما يجري في داخله، ولا ينبغي السؤال عما يجري هناك، ولأن والدتها ومن قبلها جدتها مرتا بمتاعب ما يسمى “سن اليأس” من دون إفصاح أو طلب عون أو دعم أو نصيحة من أهل الاختصاص فقد طال تجاهلها معاناتها لأنها ستمر كما أخبرتها الجارة والخالة والعمة.
معاناة فاقت الحدود
لكن المعاناة فاقت الحدود وأصبحت مصدر حرج مستمر. حتى زوجها بدأ يسخر من هباتها الساخنة، معتقداً أن السخرية من شأنها أن تخفف عنها المعاناة. ولولا لجوؤها بعد أشهر طويلة لطبيب أمراض نساء، بعد بحث على شبكة الإنترنت التي مكنتها من الحصول على شرح مبسط مبدئي لما تمر به، وحصولها على علاج هرموني تعويضي، لتضررت حياتها الأسرية والمهنية والاجتماعية بشكل كبير.
أكبر معضلة تواجهها النساء في هذه المرحلة العمرية، التي يحلو للإعلام والطب والقاصي والداني أن يسميها “سن اليأس”، هو فهم ما يحدث لهن وقبوله والحصول على الدعم الاجتماعي والطبي المناسب، إضافة إلى تفهم المحيطين لا سيما الذكور.
هذا الفهم قد يكون حملات توعية قلما يلتفت إليها أحد، أو فقرات وموضوعات إعلامية تصنف عادة تحت بند “برامج المرأة” فيصرف عنها الرجال الأنظار والتركيز، لكن حين ارتدى عدد من النواب الذكور أعضاء مجلس العموم البريطاني قبل أيام سترات حرارية بغرض خوض تجربة الهبات الساخنة التي تعيشها النساء، حدث فرق كبير.
الفرق تمثل في تصبب العرق من وجوه النواب التي احمرت، وطلب أغلبهم خلعها لشعورهم بالضيق والعصبية الشديدين بسبب الوسادات الساخنة في السترات، والتي تحاكي الهبات النسائية.
حرارة البركان
“إنه أمر مزعج للغاية وخانق ويصعب احتماله”، “كيف يتوقع من يشعر بهذا الشعور أن يتعامل مع الحياة؟ لا أطيق الانتظار حتى أخلع هذا الشيء”، “نوع مريع من الحرارة وشعور داخلي لا يشبه دفء الشمس بل نيران البركان. أود أن أخلعه فوراً”. هكذا وصف النواب البريطانيون الذكور ما شعروا به وصفاً دقيقاً ربما يفوق محاولات وصف النساء أنفسهن ممن يتعرضن للهبات الساخنة، لكن الفرق الوحيد كان في إمكانية “خلع” السخونة الرهيبة من قبل النواب، واضطرار النساء إلى التعايش معها.
محاكاة الهبات الساخنة نظمتها مجموعة تسمى “فوق القمر الدموي”، وترفع شعار “امتلكي فترة انقطاع الطمث” أو (Own your Menopause) عبر ثلاث خطوات رئيسة: معرفة ماهية مرحلة انقطاع الطمث، وامتلاك مقاليد الأمور في هذه المرحلة عبر حسن إدارتها، وتحويل المرحلة وجعلها مرحلة تحول إيجابية.
التثقيف والمعرفة والتمكين من أدوات المساعدة عبر اللجوء للطبيب والحصول على العلاجات المناسبة لكل حال على حدة حيث البدائل الهرمونية لا تصلح للجميع، جزء من العملية التثقيفية التي تتبناها المجموعة، لكنها تعمل أيضاً على تمكين النساء نفسياً بحيث لا تشعر المرأة بالحرج من ظهور هذه الأعراض أمام الآخرين. ولذلك، فإن تثقيف الآخرين أمر لا يقل أهمية عن تثقيف النساء أنفسهن.
دعم نفسي وصحي
دول كثيرة تعمل على دعم النساء في هذه المرحلة العمرية التي تتطلب عناية صحية ونفسية مختلفة. وتتراوح قدرات هذه الدول الاقتصادية في توفير العلاجات التي من شأنها أن تخفف أعراض هذه المرحلة. وعلى الرغم من أنها أعراض مؤقتة فإنها قد تدوم سنوات، وهو ما يعني أن عدم الحصول على دعم طبي ونفسي يدفع المرأة إلى التعايش مع حرج وألم يعرقلان حياتها ومن حولها.
وعلى الرغم من أن التغيرات الهرمونية بعد انقطاع الطمث تسفر عنها أعراض متشابهة لدى نساء الأرض، فإن النساء لا يعشن جميعاً في الظروف نفسها، كما أن درجات تقبل الثقافات والمجتمعات للمجاهرة بمشكلات النساء الصحية تتفاوت لدرجة التناقض.
في دراسة منشورة بدورية “منوبوز” التي تصدر عن “جمعية انقطاع الطمث في شمال أميركا” عن أكثر الآثار المزعجة الناجمة عن هذه المرحلة، جاء أن الفروق الاجتماعية والثقافية لها أثر كبير في تعامل المجتمعات مع آثار انقطاع الطمث لدى النساء. ففي المجتمعات التي يتم تبجيل التقدم في العمر وتحظى المرأة الأكبر سناً بمكانة أفضل واحترام أكثر تكون أعراض انقطاع الطمث أقل إزعاجاً للنساء، لأن المجتمع يكون على قدر من التفهم والقبول والتعاطف، ما يجعل الأمر أكثر سهولة. أما المجتمعات التي تتعامل مع التقدم في العمر، لا سيما للنساء، باعتباره نقطة ضعف أو مصدر حرج وشيخوخة تستوجب الحجب والستر بعيداً من الأعين، فإن الأعراض تكون أخطر وأفدح وأكثر ألماً للمرأة. ويكفي مصطلح “سن اليأس” الذي تعتمده ثقافات عدة.
التجدد بدل اليأس
في مطلع العام الحالي، اعتمد “صندوق الأمم المتحدة للسكان” مسمى “سن التجدد” بديلاً من “سن اليأس” لهذه المرحلة العمرية وأعراضها. وأعلن الصندوق أن غالبية النساء يملن إلى إلغاء هذا المسمى اليائس واستبدال آخر أكثر إيجابية به، لتعريف هذه المرحلة الجسدية والنفسية من حياة أية امرأة. وأعلن الصندوق أن “لا مزيد من اليأس، بل مزيد من التجدد”.
المثير أنه تم هذا العام إضافة “سن التجدد” إلى قاموس المعاني ليعني “السن التي ينقطع فيها دم الحيض عن المرأة ويتوقف التبويض، وتتجدد طاقتها لمرحلة جديدة وواعدة من حياتها وعادة تكون بين الـ45 والـ50″. والأكثر إثارة أن القاموس نفسه في قسم المعاني الإنجليزية العربية يعرف (Late menopause) بـ”أواخر سن اليأس”.
رحلة الألف ميل صوب التطرق إلى متاعب سن التجدد (اليأس سابقاً) تبدأ بتعديل في القاموس وتجديد للأعراف واعتراف بأن ملايين النساء يعشن أشهراً وربما سنوات فيها كثير من المعاناة وربما الحرج القابلين للعلاج أو في الأقل تخفيف الوطأة.
وطأة الهبات
وطأة الهبات الساخنة لا يخفف منها حجم الدراسات الطبية عنها الصادرة بالإنجليزية أو أطروحات الدكتوراه المنجزة في شأنها بالجامعات العربية. أدوية وأدوات ومنصات تقديم المساعدة للنساء في الدول العربية للتعامل مع هباتهن الساخنة تبحث عن إتاحة عربية. وعلى الرغم من أن مواقع عدد من وزارات الصحة العربية تحوي بعض المعلومات عن هذه المرحلة العمرية، فإنها لا تقدم كثيراً من المساعدة لمن يبحثن عن سبل لتخفيف الأعراض باستثناء المعلومات.
من جهة أخرى، فإن المفردات المستخدمة متعطلة عند مرحلة “اليأس” و”الشيخوخة” و”التقدم في العمر”، بل هناك من يضع “سن اليأس” تحت بند “أمراض الشيخوخة”.
أما إتاحة علاجات مثل بدائل الهرمونات وغيرها ضمن أنظمة التأمين الصحي الحكومي، فما زالت بعيدة من أغلب نساء الأرض، باستثناء بعض الدول ذات مستوى الدخل المرتفع. وعلى الرغم من ذلك، فقد أوضحت دراسة بريطانية نشرت نتائجها مطلع العام الحالي أن ما يزيد على مليون امرأة بريطانية قد يجدن أنفسهن مضطرات إلى ترك وظائفهن لأن المديرين وأصحاب العمل يعجزون عن تفهم ما يواجهنه من مصاعب قد تؤثر في العمل في هذه المرحلة. وقالت غالبية النساء إن آثار انقطاع الطمث لا سيما الهبات الساخنة لها ثاني أكبر تأثير سلبي على حياتهن، بعد إنجاب الأطفال.
إندبندنت عربية