غضب بالسودان بعد تهريب الذهب لروسيا وسط صمت رسمي
أثارت التفاصيل التي عرضتها قناة “سي أن أن” الأميركية عن عمليات تهريب الذهب السوداني، منذ يومين، صدمة وسخطاً كبيرين في أوساط الشارع من فقدان ثروات البلاد، وعلى الرغم من أن بعضهم شكك في دقة المعلومات الواردة بالتقرير، وانتقد آخرون غياب المصادر الرسمية عنه إلا أن أحد لم ينف عمليات التهريب.
تشكيك ومتابعة
شكك البعض في دقة الأرقام والمعلومات التي تضمنها التقرير ودوافعه السياسية بعدما تابع معظم السودانيين باهتمام واسع التقرير الذي أفاد بأن “قيمة الذهب المستخرج في السودان والمهرب إلى روسيا تبلغ قيمته 13.4 مليار دولار سنوياً عبر شركات روسية تعمل في مجال تنقيب وإنتاج الذهب عبر مهابط طائرات في الصحراء من دون المرور بالإجراءات الرسمية عبر بنك السودان المركزي”.
وأشار إلى “أن روسيا تواطأت مع القيادة العسكرية المحاصرة في الخرطوم ما أتاح تهريب مليارات الدولارات من ذهب السودان متجاوزين الدولة في مقابل دعم سياسي وعسكري للقيادة العسكرية للقضاء بعنف على الحركة المؤيدة للديمقراطية، في وقت يسهم ذهب السودان في تخفيف قبضة العقوبات الغربية على روسيا”.
وتساءل آخرون عن دور القوى المدنية السودانية التي كانت شريكة في الحكم وبيدها القرار التنفيذي والسياسي في الدولة خلال الفترة الماضية من المرحلة الانتقالية، فماذا فعلت ولماذا لم تكتشف وتوقف كل هذا العبث بمقدرات البلاد؟ ولماذا آثروا الصمت وهم يرون موارد البلاد تسرق وتنهب ليصبحوا شريكاً متواطئاً بصمتهم على الجريمة والتغطية عليها بتوفير الغطاء السياسي للمهربين؟
الكاتب والمحلل السياسي عثمان ميرغني كتب مقالة، السبت 30 يوليو (تموز)، جرى تداوله على نطاق واسع عبر وسائل التواصل الاجتماعي جاء فيه، “ربما يكون الرقم المذكور في التقرير أقل كثيراً من الحقيقة لكن لطالما لا يوجد أحد قادر على رؤية ما يخرج من باطن الأرض ثم يطير مباشرة إلى الخارج، فإن أي رقم يذكر يكون قابلاً للتصديق، وتبقى القضية الأهم هي كيف تستباح ثروة هائلة مثل هذه في بلد يكاد يحتاج لكل دولار ليقابل عجزاً مهولاً في نفقاته الضرورية مثل الغذاء والدواء بل وحتى تمويل الخدمة المدنية الضخمة”.
أين الرقيب؟
ويسأل ميرغني “لماذا تخرج مثل هذه الثروة بغض النظر عن الجهة التي تذهب إليها من دون أن تطالها يد الرقيب أو إجراءات الاستثمار الأجنبي العادية التي تضبط ما لقيصر لقيصر وما للسودان له؟”، مشيراً إلى أن “الإجابة عن تلك الأسئلة تبدو أكثر إيلاماً من الذهب المهرب”، مستعرضاً في الوقت نفسه نماذج عدة من عدم المبالاة في التعامل مع ممتلكات الدولة وكنوز البلاد”.
ويضيف، “إن ذهب السودان الذي اكتشفت الفضائية الأميركية خروجه بلا تأشيرة أو إجراءات لم يكن استثناء من حال غياب الدولة المؤسسية، فالذي يضبط الموارد بل ويبسط السيادة على كامل جغرافية السودان ليس مجرد شخصيات أو نظام سياسي أو نيات حسنة أو سيئة، بل مؤسسات تحقق معنى دولة القانون، كما هو الحال في كل بلاد الدنيا”.
ولفت ميرغني إلى أنه “من الممكن اتهام شخص أو جهة بالتقصير إذا كان الأمر محصوراً فقط في مورد واحد وثغرة واحدة حتى ولو كانت تكلف البلاد عشرات المليارات من الدولارات، لكن عندما تشيع حال غياب الدولة في محتواها المؤسسي تستوي سرقة الدولار الواحد والمليون”.
ويستطرد الكاتب، “العبرة ليست في القيمة بل في أن الدولة نفسها باتت منزوعة القوام المؤسسي، ومن قال إن الذهب المسروق يعادل أكثر من 13 مليار دولار فقط، وليس 33 أو حتى 300 مليار؟” مبيناً أنه “طالما هو مسروق بلا أوراق ولا تمر شحناته على أي جهة رقابية، فالمسروق ليس ذهباً بل دولة”.
مأساة التهريب
من ناحيته، وصف وزير التخطيط العمراني الولائي الأسبق خالد معروف التقرير بالخطر الذي يخبرنا عن “مأساة تهريب الذهب السوداني الذي لم يعد هناك مواطن أو مواطنة في هذا البلد لم يبلغه نبأ المأساة في بلد أهله يبحثون عن الدواء وحليب الأطفال”.
ويقول معروف لـ “اندبندنت عربية” “بحسب متابعتي ومعلوماتي الموثوقة فإن إنتاج الذهب كان قد بلغ 114 طناً عام 2018 بخلاف التهريب”، مذكراً بالتصريح الشهير لوزير الصناعة الأسبق موسى كرامة أمام البرلمان، عندما كشف عن أن “إنتاج السودان من الذهب يبلغ 250 طناً خلال العام الواحد”.
أوروبا تقر حظر الذهب الروسي… فما مصير الأسعار؟
ويضيف الوزير الأسبق، “تشتد المأساة عندما نعلم أن العجز في الموازنة الجارية للربع الأول 2022 بلغ 1.23 مليار دولار وفقاً لمرجعيات بنك السودان، إذ تبلغ الواردات 2.62 مليار دولار، بينما الصادرات 1.39 مليار دولار”.
ويتابع، “التقرير فضلاً عن كشفه للفساد فضح السودان أمام العالم كله بأنه بلد شبه مستباح، إذ من المدهش عجزه عن السيطرة على هذا المورد الضخم على الرغم من الضائقة الاقتصادية شديدة الوطأة التي تطبق على البلاد”.
وأشار الوزير الأسبق إلى أن “التقرير بغض النظر عن دقة الأرقام التي تضمنها فإنه قد سلط الضوء على موضوع في غاية الأهمية وخدم مصلحة السودان، كما نبه قطاعات واسعة في جميع شرائح المجتمع الشعبية والرسمية إلى ما يدور بخصوص مورد الذهب، وكشف حقيقة الفوضى الضاربة في هذا المورد وفي بلد لا بواكي عليه”.
شبه رد
من جانبه، علق المدير العام للشركة السودانية للموارد المعدنية مبارك أردول على تقرير القناة الأميركية بأن “الحديث عن تواطؤ روسيا مع القيادة العسكرية لتهريب ما تساوي قيمته مليارات الدولارات من الذهب غير دقيق”، ووصف في تدوينة عبر حسابه على “فيسبوك” التقرير بـ “الفقير والضعيف في بعضه، وأن أرقامه مضخمة بل خيالية”، منوهاً بأن “محاولات التقرير إقحام السودان في ما يدور بين روسيا والغرب لم تنجح في حبكتها”.
وأضاف مدير شركة الموارد المعدنية، “كنت سألتقي القناة إذا طلبت مواجهتنا بفرضياتها، وأوضح لهم كثيراً مما يبدو معقداً، وكان ذلك سيفيدها هي والمتابع”. وختم تدوينته، “عموماً لا يبدو الأمر كما يرددون ولا يمكنهم ليّ عنق الحقيقة وتجيير الواقع مهما اجتهدوا”.
وتواصلت “اندبندنت عربية” مع مدير الشركة المعدنية ووعد بترتيب لقاء للرد على استفهامات عدة حول ما جاء في التقرير وأخرى جديدة، لكنه لم يرد على طلبها حتى لحظة نشر التقرير.
70 في المئة من الذهب مفقود
ووصف الأكاديمي والمحلل الاقتصادي محمد الناير التقرير بغير المحايد، كونه لم يستصحب وجهة النظر الرسمية ولم يتح لها فرصة التعقيب أو الرد، مشككاً في المبلغ الذي أورده التقرير حول تهريب ما قيمته 13.4 مليار دولار. وأشار في تصريحات خاصة إلى “تباين الآراء حول عائدات الذهب وما ينتجه السودان من المعدن الأصفر، فقبل أربع أو خمس سنوات كانت السلطات الرسمية تعلن عن 100 طن في المتوسط، وما يصدر منه عبر بنك السودان كان 30 طناً فقط، وبالتالي فهناك 70 طناً مفقوداً، وقبل ثلاث سنوات بدأت السلطات تعلن أن الإنتاج نحو 35 إلى 40 طناً فقط، وهو الذي تتم السيطرة عليه وتصديره إلى الخارج”.
ويضيف الناير أن “صادرات الذهب في الربع الأول للعام 2022 بحسب تقارير بنك السودان بلغت قيمتها 720 مليون دولار، مما يعني أنه إذا استمر المعدل نفس خلال الربع الثاني والثالث والرابع من العام نفسه، فيمكن أن تقترب عائدات الذهب للمرة الأولى في السودان لما يتراوح بين 2.5 إلى 3 مليارات دولار، علماً بأنه في العام السابق 2021 حقق عائدات بنحو ملياري دولار، وهو مبلغ لم يتحقق منذ العام 2012 أول عام بعد انفصال جنوب السودان، وبعد أن رفعت الدولة اهتمامها بالذهب لتعويض النفط الذي ذهب مع الجنوب”.
وأكد الناير “وجود تهريب لما نسبته 70 في المئة من الإنتاج، لأن معظم الإنتاج التقليدي يهرب لصعوبة السيطرة عليه، أما الشركات فهناك نحو 140 شركة امتياز تعمل في مجال الذهب، غير أن المنتجة منها نحو 10 فقط، ويبلغ مجمل إنتاج القطاع المنظم ما بين 12 إلى 16 طناً خلال العام، فضلاً عما بين 50 إلى 60 شركة تعمل في مجال مخلفات التعدين ومعظمها منتج، وهذا القطاع بخلاف التقليدي التعدين متابع من قبل شركة الموارد المعدنية، وهي الذراع الفني لوزارة المعادن”.
أين البورصة؟
وبخصوص الشركات الروسية العاملة في مجال الذهب أوضح الناير “أن هناك شركتين روسيتين هما (كوش) و(ميرو قولد) وتعتبر الأولى من الشركات المنتجة لنحو أربعة إلى خمسة أطنان سنوياً، أما الأخيرة فلم تقترب من الدخول في دائرة الإنتاج، وبالتالي فإن الحديث عن السودان قد صدر كميات من الذهب المهرب وفق ما جاء في تقرير ’سي أن أن‘ لا يسنده الواقع إلا إذا كانت له أبعاد ودوافع أخرى”، بحسب الناير.
وتساءل المحلل الاقتصادي عن سبب تباطؤ الدولة في إنشاء بورصة الذهب للحد من التهريب حتى الآن، على الرغم من النصائح الكثيرة، مما يخلق استفهامات وتساؤلات عدة في هذا الشأن.
جمال عبد القادر البدوي
إندبندنت عربية