جعفر عباس يكتب: فعلا من نسي قديمه تاه
نحمد الله كثيرا، فقد صار عندنا خبراء في كل شيء: أطباء ومهندسون وباحثون اجتماعيون وعلماء نفس ومختصون في إدارة الوقت والعلاقات الأسرية، واحتفى السودان قبل بضعة أعوام بصبي سوداني يحمل الجنسية الأمريكية، بحكم الميلاد في الأراضي الأمريكية، لأنه اخترع ساعة، واستقبله الرئيس المخلوع عمر البشير ومنحه ميدالية، وكنت من فرط جهلي أعتقد أن اختراع الساعة بشكلها الحديث تم قبل أكثر من قرنين. ثم صارت هناك برامج تلفزيونية تشرح “أصول وضوابط” العلاقة بين الزوج والزوجة، وأخرى تقول إنه يتعين علينا أن نربي عيالنا حسب الكتالوج: لا تنهر الطفل ولا تزجره، بل اعمل على تحفيزه وتشجيعه، تجنب الزواجر والنواهي، فالطفل يولد حراً والأوامر تحد من نموه الفكري والعقلي!! أما ضرب الطفل ولو بطرف الإصبع، فسيجعله مجرما عندما يكبر، والنتيجة: شباب لا يحسون بأي قدر من المسؤولية تجاه الآخرين والمجتمع، فقد صار الواحد منا يعرف عن تامر حسني وكاظم الساهر وليدي غاغا، أكثر مما يعرف عن أبناء عمومته وبنات خالاته. هناك شبان وشابات يتحلون بأنانية مفرطة ونهم عجيب للاستفراد بكل ما هو جديد وبديع!! بغض النظر عن منافعه ومضاره، وكما نقول، فإن الشباب “مرحلة وتعدي”، ولكن أنظر إلى حالنا كأزواج وزوجات، وستجد العلاقة بيننا تقوم بنفس شروط الشركة المساهمة، وكل طرف يحرص على مصالحه ويتحسب من الغدر والكيد، حتى بلغت بنا الأمور مرحلة الهجر الطوعي في المضاجع بعد أن انتشرت موضة غرفة نوم منفصلة لكل من الزوج والزوجة، وقد تتطور الأمور إلى درجة وضع قوات لفض الاشتباك بين الطرفين إذا شكا أحدهما من أن الآخر تحرش به!! صرنا نتعامل مع مقولة إن الزواج يقوم ويقع بالحب وكأنها حديث قدسي، رغم أن الحب عاطفة إيجابية ولا تسبب الدمار والخراب عادة، والشاهد هو أنه لم يعد هناك مجال للتكافل والتعاضد في الحلو والمر على مستوى المجتمع، ولا مجال لعلاقات زوجية تقوم على الاحترام الذي لا يقل أهمية عن الحب، وقد نتمدن ونتحضر ونتعولم ونتفرنج ونصل إلى ما توصل إليه الغربيون بأنه طالما أن هناك حباً بين الطرفين فإنه لا معنى لوجود وثيقة الزواج! كنا فيما مضى نرث القيم الدينية والإيجابي من القيم الاجتماعية والثقافية عن أجدادنا وآبائنا، ونملك حصيلة من الحكم والأمثال الشعبية التي نحتكم إليها للتفريق بين الصحيح والخطأ، ولكن لم يعد هناك مجال للحكمة، بل التعويل فقط على الخبراء الذين صاروا يفتون في كل شيء، إلى درجة أن بعض كبار السن منا والذين يفترض أنهم منابع ومناهل الحكمة، صاروا بريالة ومهووسين بإخفاء علامات التقدم في السن بالمساحيق وعمليات التجميل والجزع عند أي مرض، بل صار الناس يعتبرون كبار السن من أصحاب الإعاقات، بينما صار كبار السن يحسبون أنهم بتناول هذا العقار أو ذاك الكريم والدهان قادرون على تأجيل الموت إلى أجل غير مسمى، وكل ذلك بسبب فقدان الحكمة والحكماء والاحتكام إلى العقل والضابط / الرادع الديني والموروث الثقافي، واستسهال الاستعانة بالخبراء، فالخبرة تشتريها بفلوسك ولكن الحكمة تتطلب الجلد والكفاح والتعلم والوقوع في الخطأ ثم تصحيح الخطأ! ولهذا تجد في زماننا هذا جانحين فوق الأربعين لم يتخلصوا من النزق الشبابي. والمصاب الأكبر هو أن الماضي كله صار مداناً والموروث كله صار موضة قديمة، ولهذا لم يعد عندنا “كبير”، ولا احترام للسلطة، ولا أتحدث هنا عن سلطة الحكومة، رغم أن احترامها واجب في الكثير من شؤون الحياة، بل سلطة الأبوين وكبار العائلة والمجتمع بما يعنيه من ضوابط وواجبات وحقوق… ومن يبصق على ماضيه فإنه يبصق على نفسه!
صحيفة الشروق