صلاح الدين عووضة يكتب : الدابة!!
وهي ما يدب على الأرض.. والدبابة تدب عليها؛ ولذلك سميت دبابة… بصيغة المبالغة.. وفي المخلوقات اقتصرت التسمية على الحيوانات… كما ورد في القرءان كثيراً.. وما يزحف من المخلوقات يسمى زواحف.. وفي القرءان أيضاً إشارة إلى دابة تكلم الناس (إذا وقع القول عليهم).. ما هو هذا القول؟… ومتى يقع؟… وما كنه هذه الدابة التي توجه كلامها للناس؟.. هذا ما يحتاج إلى فهمٍ بعيداً عن ظاهر التفاسير.. بعيداً عن تفسير وضعية الأرض في الفضاء بأنها تحط على ظهر نون عملاق؛ أي حوت.. وهذه الجزئية جادلت فيها الترابي جدالاً موثقاً… ومنشورا.. رغم اتفاقي معه في بعض اجتهاداته الأخرى مثل عذاب القبر… والمسيح الدجال.. أو رغم علمي بأن حديثي يتوافق مع حديثه؛ ولم أكن سمعته قبلاً.. كما لم أكن أعلم بأن الشعراوي وافق حديثي عن عذاب القبر حديثاً له إلا مؤخراً.. بمعنى إنني لم أتَّبع الترابي ولا الشعراوي وإنما محض توافق.. وفي جدالي معه قلت له – الترابي – إن تفسيره يناقض منطق الأشياء… ومنطق القرءان.. فهو يقول إن الدابة ما هي إلا الناس أنفسهم حين يدبون يومئذ.. طيب فكيف يكلم الناسُ الناسَ؟… والناسُ – كما يقول الله – (كانوا بآياتنا لا يوقنون)؟.. كلام غير منطقي… وغير عقلاني.. فمن من الناس يكلم من وجميعهم يدبون حينئذ؟… ثم إن اليقين يكون قد حدث أصلاً.. وذلك بافتراض أنّ المعنى بوقوع القول هو يوم القيامة.. إذن فليس هو يوم يقوم الناس لرب العالمين… فالناس – حينها – لا يحتاجون إلى يقين.. كما إنه لا يُعقل أن يكون دبيبهم على الأرض كلاما.. ولا يُعقل – كذلك – أن يكلم بعضهم بعضا إن كانوا كلهم يدبون في آنٍ واحد؛ ويتكلمون.. ثم من مِن الناس من لا يكون قد تيقن من آيات الله ساعتذاك؟.. فقد أخطأ الترابي – إذن – في تفسيره هذا بشأن الدابة؛ وزمان دبيبها… رغم اجتهاده المنطقي.. فصحيح أنْ ما من دابة حيوانية تكلم الناس.. ولكنها ليست دبيب الناس على الأرض… كما أنّ يوم وقوع القول ليس هو يوم القيامة.. فذاك يومٌ ينتفي فيه الشك حتى من قلوب أشد الناكرين.. ومن ثم لا يحتاجون إلى من يكلمهم عن آيات الله ليحل محل شكوكهم اليقين.. فما المقصود – إذن – بآية الدابة في كتاب الله؟.. معنى الآية – فالدابة – يكمن في جوف الآية نفسها.. ثم فيما قبلها – وما بعدها – من آيات؛ فالقرءان في منتهى البلاغة.. وليس بالضرورة أن يُؤخذ بظاهر آياته؛ كما آية (ذق إنك أنت العزيز الكريم) مثلاً.. فما هو بعزيز ولا كريم؛ وإنما محض سخرية لاذعة.. ولنعد الآن إلى الآية موضوع كلمتنا هذه؛ والتي هي من جزءين.. (وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون).. فماذا تقول الآيتان اللتان قبلها من سورة النمل؟.. (إنك لا تُسمع الموتى ولا تُسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين).. لاحظ هنا البلاغة القرآنية مع السخرية؛ فمن الطبيعي أنّ الموتى لا يسمعون… وهم موتى.. أو أشبه بالموتى من حيث عدم القُدرة على السمع.. والمعني بكلام الله هنا الذين لجوا في طغيانهم يعمهون؛ فهم صمٌّ… بكمٌ … عميٌ.. ثم ماذا تقول الآية التي تليها؟.. (وما أنت بهادي العُمي عن ضلالتهم إن تُسمع إلا من يُؤمن بآياتنا فهم مسلمون).. ثم ينتقل الحق من بعد ذلك إلى آية الدابة.. (وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون).. فما المقصود – بدءاً – بوقوع القول هنا؟.. سنجد الإجابة في آية تجيء بعدها… وتعيننا على فهم آية الدابة هذه.. (ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون).. والآية هذه تحكي عن يوم القيامة… بخلاف آية الدابة التي قلنا إنها تخاطب الحاضر.. والزمان الذي يتحدث عنه القرءان يُفهم من سياق الآيات.. أي إن وقوع القول المقصود به سلب القدرة على الفهم… فالنطق.. فلو أن رب العزة أخرج لهم دابةً من الأرض تكلمهم فلن يفهموا… ولن يعوا… ولن يتيقنوا.. منتهى البلاغة…. مع منتهى السخرية.. والخلاصة؛ أنه ما من دابةٍ تدب على الأرض.. فالقرءان لا يُفهم – في كثيرٍ من وجوهه – بظاهر معاني آياته.. إلا إذا فهمنا مثلاً أن الشمس تغرب فعلياً في عينٍ حمئة… كما في ظاهر آية سورة الكهف.. والغريب في الأمر أن كثيراً من المفسرين فهمها كذلك حرفياً.. ومن ثم طفقوا يجتهدون – ومنهم ابن كثير – في معرفة مكان هذه العين.. وما أكثر الذين لا يفهمون في زماننا هذا.. حتى وإن خرجت لهم دابةٌ من الأرض تكلمهم.. دابة حقيقية وليست افتراضية – مجازية – كما عناها القرءان.. وليست أيضاً دابة ترمز إلى دبيب الناس على الأرض – يوم القيامة – كما ذكر الترابي.. سيما من كان منهم من يدب على الأرض بلا عقل.. فهو نفسه دابة!!.
صحيفة الصيحة