الذهب ولعنة المحصول النقدي في السودان
حين أثارت “سي أن أن” في يوليو (تموز) الماضي قضية تهريب الذهب السوداني ودور شركة “مروي غولد” الروسية فيه، كانت مواقع إنتاج الشركة ذاتها محاصرة بالاحتجاجات المحلية عليها في مدينة العبيدية بولاية نهر النيل.
كان أهالي المنطقة “ترسوا” الشارع المار بجهة الشركة محتجين على خرقها للسلامة البيئية باستخدام الزئبق والساينايد في عملياتها الإنتاجية، وطالبوا بـ10 في المئة من إنتاج الشركة بمنطقتهم من باب المسؤولية الاجتماعية لجبر الضرر من شرور صناعتها، ولم تحرك الحكومة ساكناً. كما ضغطوا على الشركة والحكومة معاً بإغلاق الماء عن الشركة وحصل المعتصمون على ما طالبوا به وانفضوا.
يحدث تعدين الذهب أضراراً على البيئة والناس، وهي أضرار يمكن تسميتها بـ”لعنة المحصول النقدي” الذي عليه عماد الدولة في العملة الصعبة، ولم تسلم من اللعنة صناعات أخرى أنتجت محصولات نقدية مثل القطن في العشرينيات من القرن الماضي، والنفط في آخر تسعينيات القرن الماضي.
ومما فاقم من هذه الأضرار بالمنتجين أن الحكومات في حالتي استخراج النفط وتعدين الذهب، ضربت صفحاً بالكلية عن فرض أي من إجراءات الأمن الصناعي والبيئي، فجاءتنا البلهارسيا عن طريق الزراعة بالري الدائم عبر القنوات والترع منذ قيام مشروع الجزيرة بوسط السودان في 1926 وما تلاه من مشاريع إلى يومنا وبلغت الإصابة بها إحصائياً ليومنا 8 ملايين نسمة.
ومعلوم أن الماء حاضن ليرقة البلهارسيا ومع أن السودان لم يخل تاريخياً من البلهارسيا، فإن الري الدائم يجعل الإصابة بها دائمة، لا موسمية كما في الري بالمطر والحفائر، ناهيك عن رش القطن الذي يصيب بالإرهاق وتوتر الحلق والعين والإسهال بسبب التعرض لمواده الكيماوية.
في آخر التسعينيات جاءنا النفط، وحلت معه الأضرار البيئية التي ترك لها الحبل على الغارب ولم تراع الحكومة السودانية ولا الصين، صاحبة الاستثمار الأكبر في الصناعة أي تحوط من الأضرار على البيئة والناس.
ولما تنصلت الدولة من واجبها الرقابي على الصناعة وآفاتها، خرج المجتمع المدني يدرأ أضرارهما عن المجتمعات المحلية وتجمع الشباب حول حقول البترول في 2012 محتجين على شركة صينية في ولاية غرب كردفان، بعد فحوص للدم أثبتت تفشي الرصاص في الدم وتواتر حالات الإجهاض وتشوهات الأطفال ضمن أمور أخرى.
وجاء الذهب كمحصول نقدي بعد انفصال جنوب السودان في 2011 انفصالاً ذهبت به جل صناعة النفط إلى الدولة الوليدة واستشرى التعدين، الأهلي منه والرأسمالي، وعمت أخطار صناعته البلد، فالتعدين قائم في 13 من أصل 16 ولاية، وتعمل فيه 60 شركة، منها 15 في جنوب كردفان وحده، بحسب إحصاءات 2017، ونحو 10 ملايين معدن أهلي معروفين بـ”الدهابة” في 40 ألف موقع بأنحاء القطر، فالتعدين في السودان حال وبائية مكتملة الأركان أو “قنبلة موقوتة”، كما وصفها أحدهم.
لاستخلاص الذهب من الحجر، يستخدم المعدنون الزئبق والساينايد والثيوريا وكلها معادن عالية السمية، ويحصل المعدن باستخدام الزئبق على 40 في المئة من الذهب من عروقه في الحجر، ويبيع الدهابي النفايات التي حصل منها على ذهبه وتعرف بـ”الكرتة”، مشبعة بالزئبق لشركة لتستخلص الـ60 في المئة باستعمال مزيد من الزئبق والساينايد.
كما يستعملون في هذا الاستخلاص آلة تعرف بـ”الغسالة” تدور بالكهرباء والمياه، ويدلق الدهابة ماء غسالاتهم مع أطنان من “الكرتة”، وليس صعباً بالطبع تصور المسارب التي ستتخذها هذه السميات في البيئة من حولها.
لم يتأخر المجتمع المدني عن الوقوف ضد شركات الذهب بسبب الأضرار التي أصابت الناس من مخلفاتها، ففي عام 2017 وحده احتجت جماعة في ولاية جنوب كردفان على إخفاء شركة ذهب بالمنطقة نتائج الفحص المعملي لنفوق حيواناتهم وتسمم التربة بشكل يضر الاقتصاد في الثروة الحيوانية والصمغ العربي.
وتلقت لجنة مناصرة البيئة في الخرطوم شكاوى من بلدتي سودري في ولاية شمال كردفان وصواردة في الولاية الشمالية عن بلوى شركات الذهب بمناطقهم، وفي العام ذاته رفض شباب قرية إنشاء مصنع لاستخلاص الذهب وطالبوا بتفكيكه، وامتد الخلاف حول قيام هذه الشركات إلى أهل المناطق أنفسهم، فوقع إطلاق نار في بلدة أبو جبيهة بجنوب كردفان بين معارضين لمصنع ذهب ومؤيدين له انتهى بمقتل اثنين وجرح آخرين.
ووقفت بادية الكبابيش بشمال كردفان ضد مصنع آخر للذهب حرصاً على ألا يستهلك مخزون ماء آبارهم السطحية، علاوة على تسميم أنعامهم، وأوقفت جماعة بشمال دارفور في 2018 قيام مصنع قريب من مورد ماء رئيس لـ16 قرية خشيت من حجم استخدامه للماء وبلغ الخلاف حوله المجلس النيابي الإقليمي.
وظلت وتيرة الاحتجاجات على شركات تعدين الذهب في تصاعد منذ ذلك الحين، فأصدرت لجنة أبناء أبو جبيهة في الخرطوم والمهجر بياناً في يونيو (حزيران) 2022 تحتج على تسرب مواد الزئبق والساينايد لمياه المدينة.
واحتج أهل مدينة أبو حمد بولاية نهر النيل على وجود 20 شركة بينهم، واعتصموا مطالبين بإبعادها بعد اكتشاف حالات تشوه في الأجنة وارتفاع المصابين بسرطانات الدم وتزايد حالات الإجهاض.
ولن تقتصر أضرار تعدين الذهب واستخلاصه على مجتمعات محلية هنا وهناك. فدق الصحافي علي ميرغني في جريدة “التيار” جرس الخطر منذ أيام من أن الكارثة في سبيلها إلى أن تصبح وطنية بل إقليمية، فوقف على تسرب مادة الزئبق والساينايد إلى مياه نهر عطبرة في ولاية النيل، وهو النهر الذي يصب في نهر النيل على مسافة 50 كيلومتراً منه.
ميرغني زار منطقة وادي الحلقي بأعلى النهر الذي لم يعد أهلها يشربون من مائه مطلقاً من فرط اختلاطه بمخلفات تعدين الذهب، وكان الدهابة لاذوا بالوادي بعد أن لاحقتهم سلطات الولاية ومنعتهم من استخدام “الغسالات” في أحياء المدن والقرى بضغط من اللجنة السودانية لحماية البيئة، ولما اشتد الحصار عليهم لجأوا إلى وادي الحلقي بنهر عطبرة لبعده ولتوافر الماء والكهرباء به.
وتلقى معارضة التعدين مقاومة من الدهابة أكثر من الدولة، فرأينا كيف انفجر خلاف بين مؤيد لشركة تعدين ومعارض راح ضحايا بأثره، وبلغ الدهابة في وادي الحلقي من القوة أن نجحوا باستبعاد عناصر من قيادة جمعية حماية البيئة.
ولا يصر الدهابة على مواقفهم عن جهل بأخطار صناعتهم عليهم وعلى غيرهم، لكن لسان حالهم “نموت شبعانين خيراً من الموت جوعى”.
غير خاف أن لعنة المحصول النقدي مزدوجة على المواطنين، فعائد هذا المحصول مثل الذهب مهدر بالتهريب والفساد، كما بين تقرير “سي أن أن”، ومن جهة أخرى فآثاره التي لا تتلافاها حكومة ساهرة على وظائفها، مدمرة لبيئتهم وصحتهم.
عبدالله علي ابراهيم
إندبندنت عربية