رأي ومقالات

الوضع الدستوري في السودان

في أغسطس ٢٠١٩ حدثت شراكة دستورية بين قحت والمجلس العسكري الانتقالي الذي انحل بعد إجازة الوثيقة الدستورية وتوقيع عبد الفتّاح البرهان رئيس المجلس عليها.

في أكتوبر ٢٠٢١: قام قائد الجيش الفريق أوّل عبد الفتّاح البرهان استناداً علي بعض المواد بقانون القوات المسلحة بحلّ حكومة حمدوك (مجلس الوزراء الانتقالي) عدا عن وزراء الحركات المسلحة الذين عُيَنوا في مناصبهم بناءً علي اتفاق سلام جوبا .. واعفي كذلك أعضاء مجلس السيادة المدنيين من مناصبهم .. مع احتفاظ ممثلي حركات جوبا وأعضاء المكوّن العسكري بمقاعدهم في مجلس السيادة الانتقالي
وبذا فضّ قائد الجيش الشراكة مع قحت وقام بتجميد كل بنود الدستور التي تشير لهذه الشراكة.

الموقف الدستوري الحالي من ٢٦ أكتوبر ٢٠٢١ وحتي اليوم:

١/الوثيقة الدستورية:
تعتبر الوثيقة الدستورية سارية المفعول عدا عن البنود التي جمّدها قائد الجيش ورئيس مجلس السيادة الانتقالي.

٢/ الجهاز التشريعي:
لا يوجد جهاز تشريعي لأنه لم يتم تكوينه مبتدءاً كما أن المجلس التشريعي الذي كان يمارس التشريع طيلة الفترة الانتقالية ويتكون من مجلسي الوزراء والسيادة الانتقاليين أصبح الآن في حكم العدم بسبب حلّ مجلس الوزراء وتسريح معظم أعضائه عدا العضوية المنتدبة من الحركات المسلحة الموقعة علي اتفاق جوبا وكذلك إعفاء الأعضاء المدنيين بمجلس السيادة بقرارات قائد الجيش ..وبالرغم من احتفاظ المكوّن العسكري وممثلي حركات جوبا بمناصبهم بمجلس السيادة الانتقالي فإنّ العضوية الحالية للمجلسين لا تكفي لتقوم مقام المجلس التشريعي الانتقالي..

ويتم التشريع حالياً وبصورة مؤقتة عبر مراسيم مؤقتة يصدرها قائد الجيش وهو يمثل حالياً جماع السلطتين التشريعية والسيادية ..

٣/ الجهاز التنفيذي:
كلّف قائد الجيش حكومة تصريف مهام مع استمرار الوزراء المشاركين من الحركات المسلحة الموقعة علي اتفاق جوبا في مناصبهم.

الفريق أول البرهان يمارس حالياً وبصورة طارئة سلطات الحاكم العسكري المؤقت وبدستور مدني ولحين توافق الجماعات السياسية في البلاد لتكوين حكومة انتقالية ومجلس تشريعي انتقالي ومجلس سيادة انتقالي.

وضع البرهان هذا أشبه بوضع الحاكم العام وسردار الجيش المصري في الحكم الثنائي السابق والذي يمتلك فيه الحاكم العام وسردار الجيش كل السلطات التنفيذية والتشريعية والسيادية ..

الوضع الحالي في السودان من الناحية الدستورية لا يمثل إنقلاباً علي سلطة منتخبة بل هو استيلاء علي سلطة انتقالية وفق إجراءات مدروسة ومصممة بحذق شديد ونتج هذا الوضع الاستثنائي بسبب فضّ الشراكة الثنائية بين القوات المسلحة وتحالف قوي الحرية والتغيير مع استمرار العمل بالوثيقة الدستورية (جُمّدت بعض بنودها) وسريان اتفاقية جوبا للسلام.

لم يلغ قائد الجيش الوثيقة الدستورية أو يجمّدها لذا لا يمكن وصف هذا الوضع الدستوري بالانقلاب الكامل وهو وضع دستوري اضطراري ويبدو أنّ أمده سيطول بسبب عدم اكتمال هياكل الدولة ..

وبالرغم من هذا الوضع الدستوري الفريد فقد جمّد الاتحاد الإفريقي عضوية السودان .. وهذا تعسف في تطبيق مادة التجميد بدستور الاتحاد الإفريقي حيث ورد تجميد عضوية الدولة في الاتحاد الأفريقي في موضعين أولهما البند رقم (P) من المادة الرابعة ويتحدث عن إدانة ورفض تغيير الحكومات بالطرق غير الدستورية وكذلك المادة (٣٠) والتي تقرر تعليق عضوية الحكومات التي جاءت بطرق غير دستورية وعدم السماح لها بالمشاركة في أنشطة الاتحاد.

وما زال لاتحاد الإفريقي محتفظاً بممثل مقيم بالخرطوم وله مناديب يشاركون في الآلية الثلاثية المناط بها إيجاد مخرج آمن من الوضع السياسي المحتقن في السودان أي أن مقاطعة الاتحاد الإفريقي للسودان ليست شاملة.

وعلي ذات المنوال نجد أن المادة الخامسة من ميثاق الأمم المتحدة تنص علي أنّه في حالة اتخاذ مجلس الأمن الدولي توصية بإبعاد دولة ومنعها من التمتع بحقوق عضوية الأمم المتحدة فإنّه يمكن للجمعية العامة للأمم المتحدة أن تجمّد عضوية هذه الدولة ولا يمكن فكّ هذا التجميد إلا بواسطة مجلس الأمن ..
ونحمد لمجلس الأمن الدولي أنه لم يُجمّد عضوية السودان بالأمم المتحدة كما أنّ قرار الاتحاد الإفريقي الأحادي بتجميد عضوية السودان لا يساعد في الخروج من هذه الأزمة السياسية الحادة في هذا القطر المنكوب ..

إذن ماهي المخارج المحتملة من هذه الأزمة:

١/ السيناريو الأوّل:
هو حدوث توافق وطني بين المكوّنات السياسية والتوافق علي حكومة كفاءات مستقلة وغير حزبية لتدير ما تبقي من الفترة الانتقالية.
ولكن يبدو أنّ احتمال توافق المكونات المدنية ضعيف جداً بسبب التباين الآيدولوجي والمرارات التاريخية بين الفرقاء المتشاكسين إضافة لما استجد بسبب مذابح فضّ الاعتصام وحوادث القتل اليومي التي جعلت المساجلات بين العساكر والشباب الثائر أشبه بحالات الثأر في مناطق صعيد مصر ..

٢/ السيناريو الثاني:
عند تعذّر التوافق بين فرقاء السياسة والآيدلوجيا في السودان فإنّه سيكون من الأفضل اللجوء إلي خيار إجراء انتخابات برلمانية مبكرة ..
وسيكون ذلك خيراً من استمرار هذا الفراغ الدستوري الذي تضرر منه السودان اقتصاديًا وسياسيًا حيث تعطّلت الإجراءات المالية المتعلقة بمبادرة إعفاء ديون الدول المثقلة بها وكذلك تأخّر اندماج السودان في الاقتصاد العالمي ، بعد العزلة التي تسبّب فيها النظام السابق، وسياسياً ضُعف الموقف التفاوضي السوداني في كثير من القضايا الإقليمية وخلافات دول الجوار …

٣/ السيناريو الثالث:
تعيين حكومة انتقالية بقرار من قائد الجيش وإلغاء الوثيقة الدستورية ..
ويعني ذلك إكمال حدوث الانقلاب ..
وهذا السيناريو سيؤدي إلي مزيد من العزلة الدولية والتضييق علي السودان ولكن علي الأقل ستكون هنالك حكومة علي الأرض توقف حالة السيولة الأمنية والاقتصادية وتردي الخدمات وكذلك معالجة الأزمات الإقليمية مثل سدّ النهضة وتردي الأوضاع في إثيوبيا وليبيا ودولة جنوب السودان الخ ..
وسيتمكن السودان من مباشرة دوره الإقليمي والدولي ..

٤/ السيناريو الرابع:
هو حدوث إنقلاب عسكري،
والذي إذا قامت به قوة إسلامية – وهذا هو الاحتمال الأكبر – فإنه سيؤدي إلي نفس نتيجة السيناريو السابق ..
والاحتمال الأضعف أن يقوم بالإنقلاب ضبّاط وطنيون غير منتمين حزبياً أو ربما من ذوي الميول اليسارية، وفي هذه الحالة سيتم التحالف بين هؤلاء الضباط والقوي الثورية واليسارية ويمكن تسويقه للمجتمع الدولي .. ولكن لا أتوقع أن تستقيم له الأمور داخلياً بسبب سيطرة الإسلاميين علي مفاصل الدولة والمجتمع وامتلاكهم القدرة علي تعطيل أي حكومة تعادي التوجّه الإسلامي ولديهم القدرة والدراية لوضع العصي في دواليب الدولة وإشعال النيران تماماً مثلما حدث لحكومة حمدوك التي عجّل الإسلاميون بتشييعها إلي مثواها الأخير غير مأسوف عليها ..

لذا فإنه في تقديري لا يوجد مخرج حقيقي من هذه الأزمة إلا بتوافق شامل بين كل المكونات السياسية وعلي رأسها المؤتمر الوطني إضافة إلي القوات المسلحة وقوي الثورة الحية .. أو إجراء انتخابات مبكرة ..
وإن لم يحدث أيٌّ من هذين الخيارين .. فالطوفان آتٍ .. طال الزمن أم قصر ..

بابكر إسماعيل
١٣ / ٩ /٢٠٢٢