مكي المغربي يكتب: حوار أمريكي إسلامي!
لو قلت مثلا “الرئيس البرهان بما يفتحه من فرص عودة للإسلاميين وفق القانون والقضاء العادل مثلهم مثل غيرهم للعمل وتحمل المسئولية الوطنية هو الحل الناجع والوحيد لقطع الطريق على أي ثورة إسلامية عارمة قد تتشكل بسبب ظروف إقتصادية قاسية وغلاء طاحن وبديل سياسي هزيل” سيختلف جدا لو قلت هذه الجملة في منتدى امريكي أو في ملتقى عربي أو سوداني.
ما يحدث في أمريكا حول هذه النقطة جدل راقي وموضوعي، أما في السودان وعند (الأصدقاء والأشقاء) وسفاراتهم مجرد خزعبلات وتشنج سياسي على شاكلة “الشعب قال كلمته”، مع أن من يردد هذه العبارة الآن في السودان قد اغلق بابه وجلس في بيته خوفا من الشارع الذي يدعيه، ولا يخرج ليردد ذلك إلا في منشط ممول خارجيا أو من جزء من المكون العسكري.
النقطة الفارقة في النقاش هي: هل استمرار التغيير المتحكم فيه تحت غطاء ثوري Controlled Change in a Revolutionary Coat أفضل أم ثورة جديدة في السودان؟ لأنها ستكون ثورة شعبية إسلامية هذه المرة، وستجر السودان إلى مشاكل عديدة، أقلها إيقاف الإصلاحات الإقتصادية وتعطيل وصفة إعادة الهيكلة، واعظمها تعطيل اندماج السودان في المجتمع الدولي.
لن يُفهم هذا الجدل في السودان ولكنه مرحب به جدا في الغرب وأمريكا تحديدا، ولذلك منذ فترة وأنا أوفر أي طاقة أو “نحت مخ” في النقاش للمنتديات الدولية، ومن الشمال لليمين فقط، وأبتعد من الشغب السوداني و “الاستبداد العربي الهمجي” في الشأن السوداني، إنها حالة من البؤس الثقافي اللعين ألجأت بعض الإسلاميين الذين يزاولون النقاش فيها لاسترضاء ناشطين وسياسيين وهميين للحصول على صك براءة منهم، وهو صك لا تعترف به الدوائر الدولية لأنها لديها قنوات أخرى للحوار لا صلة لها بهذا الشغب المحلي.
النقاش مع الأمريكان حول التوجه الإسلامي في “دوبون سيركل” أفضل وأجمل أعمق من النقاش في الطابية المقابلة النيل.
على سبيل المثال ما وجدته من نقاش عميق حول (الفرق بين الإسلام والتوجه الإسلامي) في منتدى هيستورام الأمريكي لم ولن أجده في أي مكان آخر.
بدأت القصة عندما أعدت نشر أحد مقالاتي في المنتدى وبقيت بعدها أقرأ التعليقات وأجتهد في فهمها على مدى سنة كاملة، وحتى الآن لم أفهم بعضها. لست ضعيف الفهم لكن المنتدى مستواه مرتفع للغاية، وتحتاج أحيانا للإطلاع على نظرية تاريخية كاملة لتفهم جملة واحدة.
ذات مرة نبهوني بأن تحليل أي حدث بعد العام 2000 قد يعرض مقالي للحذف، وقد حدث لي مؤخرا في مقالي عن (علاقة الجيش بالسلطة في أمريكا، والقادة العسكريين الذين حكموها)، ودخلت في توقعات الإنتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة 2024، فورا حذفت الإشارة.
مقالي “الإسلام مقابل التوجه الإسلامي” وهذه هي الترجمة المرضية لي لعنوانه Islam vs. Islamism – موجود في كل محركات البحث وفي ثلاث منتديات امريكية – إذ أتبنى مصطلح الإسلاموية أو الإسلام السياسي في سياقات أخرى.
المقال أصلا جواب على سؤال من سفير ذكي للغاية (ما هو الفرق بين الإسلامي والمسلم العادي، أرغب في فرق واحد جوهري في سطر واحد؟)
أنا أعلم مسبقا أن سبب هذا السؤال أنهم يعتقدون أن المسلم العادي يؤمن بالشريعة Average Muslim، لذلك السؤال عنه وليس عن المسلم العلماني، الذي هو الخانة الثالثة في التقسيم، أسلامي، عادي، علماني.
إجابتي كانت أن الفرق بين النوع الأول والثاني في (المسئولية تجاه الشريعة وليس في الإيمان بها) كلاهما يؤمن بالشريعة لكن المسلم العادي يرى أن النظام السياسي الموجود هو المسئول منها، ولا مسئولية عليه ولا على أفراد الشعب، بينما يرى الإسلامي أن الفرد يجب عليه دعوة الحاكم للشريعة في (النسخة السلفية) أو السعي للحكم من أجلها في (النسخة الحركية).
أردف السفير بسؤال آخر، هل الإسلام العادي أيدولوجيا أم لا؟!
وهنا قلت الإسلام دين وليس أيدولوجيا ولكن يجب الإقرار بأنه يختلف عن المسيحية تماما لوجود (سمات أيدولوجية) فيه، وهي ليست من صنع الإسلاميين إنما هي جزء من طبيعته بسبب وجود تشريعات اسلامية فيه ويرفض المسلم العادي حذفها حتى وإن صرف النظر عن تفعيلها، وأذعن لتعطيلها.
من يعتقد أن موقف المسلم العادي إزاء الشريعة هو (لاموقف) ويسهل تحويله إلى (موقف عدائي) ضدها فهو مخطيء لأنه موقف يقوم على الإيمان بالشريعة مع رفع مسئولية تطبيقها عنه إلى ذمة النظام السياسي، هو موقف مركب بإحكام Compact من (الإيمان بالشريعة وعدم العمل لها مع الإمتناع المشدد عن أي دعم لمن يعمل ضدها).
سجلت النقطة الأولى إعجابا، بينما حدث خلاف حول النقطة الثانية.
يرى بعضهم أن قولي الدين يختلف عن الأيدولوجيا غير صحيح من الأساس، فالدين أحيانا يكون أيدولوجيا، وهي – أي الأيدلوجيا – تحل محل الدين في بعض الأحيان، ولو لم يكن بينهما تماثل لما جاز أن يتبادلا الأدوار والمواقع.
آخرون يرون موقف المسلم العادي هو شكل من أشكال التوجه الإسلامي، لأنه يرفض العلمانية رفضا عقديا مبدئيا ويذعن لها واقعيا من غير قناعة.
أحدهم يرى أن سبب فاعلية الإسلاميين أن العلمانية في العالم الإسلامي (مهمة شاقة وقاسية) فهي استخراج الشيء من نقيضه، بينما تحويل المسلم العادي إلى إسلامي هو ليس استخراجا للنقيض إنما زرع التعديل في النسخة الموجودة بالحاق عبء المسئولية تجاه ما يؤمن به الفرد أصلا، وهذا قد يحدث بغير دعوة ولا حزب إسلامي إنما بسبب عوامل عاطفية و”كارثية” تضمن استمرار حدوث التعديل في النسخة، حتى ولو تم الإقصاء الكامل للمجموعات الإسلامية الموجودة.
يضاف إلى هذا أن إستهداف الإسلاميين عندما يتم بسبب صراع داخلي يختلف تماما من أن يتم بـ (تدخل خارجي) لأنه في هذه الحالة يصبح التدخل نفسه من ضمن العوامل المحفزة للفرد لتحمل مسئوليات إضافية تجاه كل ما يؤمن به. بمعنى ان التدخل الخارجي هو الشرارة القادحة لإضرام ثورة إسلامية غير متحكم فيها من الإسلاميين الموجودين أنفسهم.
ختاما، وللغرابة، أعتقد أن هذه النظرة الموضوعية لهذه القضية حدثت بسبب أن غالب المناقشين من المحايدين دينيا، ملحدين أو ربوبيين، ليبراليين متحررين في الغالب وليس لديهم إنحياز لدين محدد أو كتلة حضارية محددة.
ويستمر النقاش.
صحيفة الانتباهة