صلاح الدين عووضة يكتب : شاكوش!
وكان عندي أمس..
كان عندي صنائعي في بيتي… مع شاكوشه..
أو كان عندي شاكوش في بيتي… مع صنائعي يخبط به..
فالمهم بالنسبة إلي هو الشاكوش هذا..
وهو الذي لفت نظري… واسترعى انتباهي… وطرق طرقه مسمعي..
ثم طرق على ذاكرتي… فطرقتني ذكرى قديمة..
ذكرى من أيام الدراسة الثانوية… وبطلها شاكوش… بكل ما تمخض عن طرقه من معانٍ..
والذي فلسف لنا المعاني هذه أستاذ الفنون محمد شريف..
وأشرت إلى القصة هذه – بشاكوشها… وأستاذها… ومعانيها – من قبل..
فهو كان يستهل دروسه دوماً بالحديث عن الحرية..
كان يقول إن مجالات الإبداع كافة إذا افتقرت إلى الحرية أنتجت رتابة أحادية مملة..
وذات حصة – من حصصه – كان هنالك طرقٌ بشاكوش..
كان على سقف مبنى مجاور لفصلنا… ويتبع إلى مدرستنا ذاتها..
فتوقف محمد شريف عن الكلام فجأة… وأصاخ سمعه إلى طرق الشاكوش الرتيب..
ثم قال إن الطرق هذا به من الرتابة ما في أغنية (كلك زينة)..
رتابة ذات تكرار ممل – قال وهو يبتسم – بعكس أغنية أخرى هي (الوسيم)..
فعرفت لما كنا نكره حصة أستاذ الجغرافيا التضاريسية..
فأسلوب أستاذنا هذا في التدريس ذو رتابة مملة… ومصدر رتابته رتابة نغمة صوته..
فهو كان يضبطها على إيقاعٍ واحد… لا يتغير أبداً..
تماماً كإيقاع أغنية (كلك زينة)… حتى إذا ما انتهى زمن الحصة كدنا نغط في سباتٍ عميق..
وعلى عكسه كان أستاذ الجغرافيا السكانية..
فإيقاعه في التدريس كان مثل أغنية (الوسيم)؛ متنوعاً… جاذباً… وحراً في سياق النظام..
فأيما حرية – حتى السياسية – لها أطرٌ نظامية تحكمها..
وفي داخل هذه الأطر العامة أنت حرٌّ بلا قيود كبتٍ… وقهرٍ… وتسلط..
بينما لا حرية مطلقاً في الأنظمة الشمولية..
فمنذ مولدك – وربما حتى مماتك – لا ترى سوى وجوهٍ بعينها… ولا تسمع غير نغمةٍ واحدة..
نغمة مضبوطة على إيقاع (ما أُريكم إلا ما أرى)..
وهي نغمة تؤدي إلى الشعور بالرتابة… بالكآبة… بالملل… ثم الثورة بدافع التغيير..
وبعد سبعين عاماً مل الشعب الروسي طرق الشواكيش..
شواكيش الشيوعية التي تطرق على رؤوسهم… وقلوبهم… وإرادتهم… وإنسانيتهم..
فكان التغيير… وكانت البروسترويكا..
وطرق الروس على رأس تمثال لينين بالشواكيش..
والأمثلة السياسية – من هذه الشاكلة – عديدة؛ عالمياً… وإقليمياً… وعربياً..
وفي الصين ثار الشعب على المطرقة..
المطرقة التي في شعار دولتهم… والمطارق التي تخبط على رؤوسهم..
فحطمت الدبابات رؤوس بعضهم… وحصد منجل شعار الدولة أرواح البعض الآخر..
فتأجل الأجل المحتوم إلى أجلٍ آجل… وحتماً سيأتي..
وفي ثورة الربيع العربي انهالت الشواكيش على رأس القذافي فسالت منه الدماء… ومات..
وذلك بعد أن سئم الليبيون رتابة الوجوه… والنغمات… واللكمات..
فالنفس البشرية مفطورة على التحديث… على التجديد… على التغيير… على التنفيس..
والأمر نفسه ينسحب على عديد المجالات الأخرى..
فالخطب السياسية ذات إيقاع (انتِ كلك زينة) تشيع الممل – فالنعاس – في نفوس السامعين..
بينما إيقاع (الوسيم) يجذب الانتباه… ويجلب الانتعاش..
وصباح يومٍ – بالبلد – كنا نتحلق حول مساكنتنا طيبة وهي تصنع القهوة… من بعد الشاي..
فلاحظت أنها تطرق على البن – بيد الهون – طرقاً ذا إيقاع..
وذلك بتحريكها يميناً ويساراً على جانبي (الفندق)… من غير تقيِّد بالحركة الرأسية..
يعني حتى فلسفة محمد شريف تعرفها طيبة هذه..
ولكن منا – في مجالات السياسة… والإعلام… والصحافة… والفن – من يعشق الرتابة..
والشاكوش!.
صحيفة الصيحة