صلاح الدين عووضة

صلاح الدين عووضة يكتب : حبيبي!

ونمشي..

نمشي للوراء قليلاً..

إلى ما أعوام خلت… حين زرت القاهرة..

وهي آخر زياراتي إلى مصر بُعيد فقدها كلاًّ من هيكل وأنيس منصور..

فعزيت سائق تاكسي المطار في هيكل… أولاً..

فإذا به يخفض صوت المذياع ليسأل ببراءة (مين يا فندم؟)… فلم أعزِّه في الثاني..

بل طلبت منه رفع الصوت مرة أخرى..

وكانت تجلجل أغنية لم أفهم منها سوى كلمة (مهلبية)..

زوج صاحبة العمارة – حيث أقمت – تحدثت معه عن فاجعة موت أنيس منصور..

فأجابني قائلاً بنبرة ثقة (بس أنيس ما متش يا باشا)..

فكدت أقول له إن هذا وحده سببٌ كافٍ جداً لأن تسميك زوجتك لي (بسلامته)..

وليس لأنك – كما تزعم – (بتبصبص ع البنات) يا باشا..

وأيام دراستنا الجامعية كان أستاذنا عاطف العراقي يتخوّف من انهيار ثقافي بمصر..

وسبب تخوفه هذا ذيوع شهرة عدوية… في أعقاب حليم ..

لم يكن يستوعب كل هذا الهبوط لذائقة الغناء..

هبوطها من علو (سواح)… إلى حضيض (سلامتها أم حسن)..

وما كان يدري أن عدوية قياساً لآخرين من بعده يُعد في مصاف (سيد درويش)..

ومنهم صاحب المهلبية هذا..

أما أغرب ما سمعته بالقاهرة – طوال فترة إقامتي فيها – أغنية كلها عنب..

ومؤديها واحد صغير – جسداً وفناً – اسمه حسن الصغير..

فمقدمتها عنب… ووسطها عنب… وخاتمتها عنب ..

وكلمة العنب تتردد فيها بقدر أعداد السيارات التي تزحف كما النمل على الشوارع..

والقاهرة كانت مُصنّفة كخامس أكثر العواصم ضجيجاً..

ولكني لا أعلم ترتيبها الآن… فتلوثها السمعي بلغ حدّاً لا ينقصه الصياح بالعنب..

وسائق أجرة طلبت منه توصيلي إلى مكتبة مدبولي ..

فنظر إليّ ببلاهة… فبادلته بلاهةً بمثلها… ثم طلبت من ثانٍ… فثالث… فرابع..

وكلهم – في غرابة شديدة – لم يعلموا (موقعها)..

أما أنا فقد علمت ما آل إليه (موقع) مصر الثقافي… مصداقاً لنبوءة أستاذنا تلك..

أما الخامس فكانت إجابته (ماشي يا باشا)..

فلما ركبت – و(مشت) السيارة قليلاً – أدركت أنه يريد أن (يمشِّي) أمره فقط..

فقد دمدم قائلاً (بص يا فندم… أنا ح أوصلك حتة المكتبات)..

ثم نفث مع دخان سيجارته عبارة دخانية (وتبقى حضرتك تدوٍّر هناك ع راحتك)..

وما أن مشينا خطوتين حتى أدار مفتاح الراديو..

فمشى معنا – بسلامته – العنب..

ومشى على مصر – وبلادنا – زمانٌ جاء فيه من بعد حسن الصغير حسن آخر..

واسمه – أو لقبه – حسن شاكوش..

ومن بعد عوضية عذاب – عندنا – جاءت توتة عذاب..

وشاكوش هذا لو حضر زمانه أستاذنا عاطف لأُصيب بخبطة شاكوش على دماغه..

ومما يتنطط به على المسرح الآن أغنية اسمها (حبيبي)..

ومن قبلها كانت أغنيته (بنت الجيران)..

وكان سيمشي بها إلى بلادنا عملاً بعنوان الفيلم ذاك (خد بالك من جيرانك)..

فأخذنا بالنا نحن؛ فكتبنا محذرين… ومستنكرين..

والآن نكتب مرة أخرى؛ بالتحذير ذاته… والاستنكار ذاته… بل والمفردات ذاتها..

وذلك بعد علمنا بنيته المشي إلى الجيران… إلينا نحن..

سيمشي بكلٍّ من (حبيبي)… و(بنت الجيران)… ومعهما (العنب)..

وذلك حسبما تناهى إلى مسمعي – وموجعي – لإحياء حفل زواج يخص ابن ذوات..

وربما تنجح زيارته هذه المرة..

بعد أن بتنا نمشي الآن إلى الوراء في كل شيء… كل شيء..

وقد لا (ياخد باله) أحدٌ من كلمتنا هذه..

ومشكلتي الأعظم لن تكون في (حبيبي)… ولا (بنت الجيران)..

وإنما في (العنب)… العنب بالذات..

فتكفيني رفقته – العنب هذا – بالقاهرة وهو يمشي معي حيثما ذهبت..

فمرحباً بك – يا باشا – في بلادنا..

حبيـــبي!.

صحيفة الصيحة