الملكة في ذاكرة سودانية
(1)
قد يُعجب كثيرون من متابعي تاريخ السودان الحديث بأن هذا البلد لم يكن عضواً في منظومة دول الكومنولث. أجل يعدّ السّـودان مستعمرة بريطانية في الظاهر، لكنه ظلّ محكوما باتفاقية الحكم الثنائي منذ عام 1899، بمشاركة شكلية مع دولة مصر الملكية. قصّة حكم السودان ثنائيا من هاتين الدّولتين، تطول فصولها شدّا وجذبا ومشاكساتٍ معقدة، إلا أن بريطانيا ظلت اليد الاستعمارية في السودان، وإن بقيتْ مصر اسما في تلك الشراكة التي أنشئت وفق تلك الاتفاقية الاستعمارية عام 1899. لعلّ ذلك الوضع الدستوري والقانوني يفسّر سبب عدم عضوية السودان في رابطة الكومنولث.
(2)
ضمّت رابطة الكومنولث (لغة تعنى الرخاء المشترك) التي أنشئتْ وفق اتفاق في عام 1926، لكنه أصبح، منذ عام 1949، فعليا اتحادا رسميا ضمّ دولا كانت مستعمرة من المملكة المتحدة، وانضمّت دول أخرى بالتراضي إلى ذلك الاتحاد، أكبرها الهند وأستراليا وكندا. بلغ عدد أعضاء الكومنولث حاليا 54 دولة تقريباً وكلّ المستعمرات البريطانية السابقة في القارّة الأفريقية وسواها، صارت بعد نيلها الاستقلال أعضاء في الرابطة. ولتعقيداتٍ تتصل بوضعه الدستوري، لم ينضم السودان الذي نال استقلاله في 1956، بموافقة دولتي الحكم بريطانيا ومصر، فزالت السيطرتان، السياسية لبريطانيا والشكلية من مصر، لم ينضم للرابطة. وتجدر الإشارة إلى حقيقة هامة للغاية، أن السودان ظلّ 60 عـاما تحت إدارة ثنائية من بريطانيا ومصر، إلا أنّ الشـأن السّـوداني تحديداً كان يُعالج في وزارة الخارجية البريطانية طوال تلك الفترة، وليس في وزارة المستعمرات القديمة.
(3)
يلاحظ أنَّ للسودان علاقات مع بريطانيا تميّزتْ بخصوصية ملاحظة. وقد قال إداريّ ودبلوماسي بريطاني سـابق، هو السير دونالد هولي، إن ثمّة وضعا فريدا للإدارة السياسية البريطانية في السودان، وهو “أشبه بحكم ذاتي في إطار الإمبراطورية”، حسب تعبيره. كان نظاماً دقـيقاً يتم خلاله إرسـال نفـر من الإداريين البريطانيين يجري اختيارهم من خيرة خرّيجي جامعتي أوكسفورد وكمبريدج للعمل في السودان، ثم من بعد اكتساب خبرات معتبرة، يكلّفون بمهام إدارية أكبر في بعض المستعمرات البريطانية الأخرى. أرسل بعضهم إلى مستعمرات في القارّة الأفريقية، وكلّف آخرون بتولي وظائف مهمة في مناطق عديدة في الشرق الأوسط، كحكّام كبار خلال الفترة الاستعمارية، أو كدبلوماسيين وســفراء وحكّام في مستعمرات سابقة استقلت عن الإمبراطورية البريطانية. السير دونالد هولي الذي جاء ذكره أعلاه، وبعد أن كان عمل قاضياً ومستشارا قانونيا لحاكم عام السودان في الخرطوم، عمل بعد ذلك سـفيرا ومفوّضا ساميا في دول آسيوية وعربية.
يعدّ مقـرّ سفارة السّـودان في أحد العقارات الملكية في قلب لندن رمزا تاريخياً لعمق المكانة التي ظلّ يحتلها السّودان في قلب الملكة الراحلة
لكأن وزارتي الخارجية البريطانية والمستعمرات السابقة اعتمدتا السّـودان، محطـة أو مدرسةً للتدريب ولصقل الخبرات والقدرات لموظفين في تلكما الوزارتين، ليتم تكليفهم بصلاحيات ومسؤوليات أوسع في بعض مستعمراتهم السابقة. انضمت المستعمرات التي استقلت عن بريطانيا لرابطة الكومنولث، وكل سفير لتلك الدول يسمّى “مفوّضا ساميا” ولا يحمل لقب سفير، فكأنه يتنازل عن سيادة شرفية للتاج البريطاني، إذ منطقيا لا يرسل التاج سفيرا عنه لنفسه، بل يكون مفوّضا ساميا لذلك التاج. ولعلّ أهم ملاحظة هنا أنّ السّـودان لم يكن عضواً في الكومنولث، لأسبابٍ تتصل بالوضع الخاص للسّـودان بحكم اتفاقية الحكم الثنائي، ولكن أيضا للنظرة الخاصة والتميّز الذي تنظر به المملكة المتحدة إلى اللسّــودان، والذي له سفير مميز لدى التاج البريطاني، وإن لم يكن عضوا في رابطة الكومنولث، ولا يطلق على سـفيره لقب المفوض السامي.
(4)
كانت لافتة زيارة رئيس السودان الفريق إبراهيم عـبّود بريطانيا في أوائل عام 1964، والترحيب الملكي الرسمي والشعبي الذي حظي به. كانت الملكة إليزابيث الثانية وقتذاك، حضورا بشخصها، في محطة فيكتـوريا في قلب لندن لاستقبال عبود الذي جـاء في “زيارة دولة” (وفق التوصيف المراسمي للزيارة). اصطفّ اللندنيون في الشوارع التي مرّ بها موكبهما لتحية ضيف جـلالة الملكـة.
ظلّ السودان 60 عـاما تحت إدارة ثنائية من بريطانيا ومصر، إلا أنّ الشـأن السّـوداني كان يُعالج في وزارة الخارجية البريطانية، وليس في وزارة المستعمرات القديمة
ومرّت الأيّام ولم تتردّد الملكة في الاستجابة لدعـوة قدمها لها الفريق عـبود لزيارة السّـودان رداً لزيارته للنـدن، برغم أنّ الفريق عبّود قد تنازل، بنبلٍ بيّن، من سـدّة الحكم في الخرطوم، بعد هبّة شعبية في أكتوبر/ تشرين الأول 1964، وهو العام الذي زار فيه الفريق عبّود لندن. لم تكن زيارة إليزابيث الثانية السودان يوما أو يومين، بل امتدّت لأسبوع، ولم تقتصر على العاصمة الخرطوم، بل شملت مدناً سودانية عديدة. وظلّت تلك الزيارة عـلامة بارزة في العلاقات السودانية البريطانية التي لم تكن العلاقات التاريخية التي جمعتْ لندن إلى الخرطوم وحدها وراءها، بل للعلاقات السياسية والاقتصادية المتينة التي قامت بين البلدين. منذ سـنوات الحرب العالمية الثانية في أربعينات القرن الماضي وما بعدها، كان السّـودان يرفد مصانع النسيج في مانشستر بمحاصيل قطـنه من مشروع الجزيرة، ذلك المشروع الأكبر لزراعة القطن في العالم.
(5)
في سنوات الخمسينات وقبيل نيل السودان استقلاله، كان للسودان مكتب بالقرب من محطـة فيكتوريا وليس بعيداً من قصر باكينغهام، إلا أنّ الملكة إليزابيث الثانية، ووفق توصية حاكم عام السّـودان البريطاني، قـرّرت منح السـودان موقعاً لمكتب ممثلية السـودان. ذلك هو مبنىً من أربعة طوابق من ضمن عقارات الأسرة الملكية، في شارع كلـيفلاند راو، قبالة قصر سانت جيمس التاريخي، والذي صار مقرّا للسفارة السّودانية بعد الاستقلال. وظلت هـدية الملكة للسودان محلِّ تقـدير من كلّ السّـودانيين، من طلاب مبعوثين وزوّار وسيّاح، حلّوا بلنـدن، ويرون سفارتهم أقـرب للقلب البريطاني، وهي تجاور قصراً تاريخياً، هو قصر سانت جيمس. تلك مكرمة لم تنلها أيّ سفارة أخرى كانت من ضمن المستعمرات السابقة، أو من ضمن دول رابطة الكومنويلث.
يحفظ السّـودانيون للملكة تقديراً كبيرا، وأصداءٌ حزينة غمرت أنفاس أغلبهم، خصوصا من الجيل الذي شاهد تفاصيل زيارتها التي استمرّت أسبوعا
وفي 1985، انتهى العقد الإيجاري لذلك العقار الملكي الذي ظلت تشغله سفارة السودان ومدته 30 عاما. وسـارعت سفارات كبرى، عربية وأفريقية، للتنافس حول حيازة ذلك العقار الملكي الذي قد تخليه السفارة السودانية، ووسّطوا من وسّطوا لدى البلاط. حينها، انبرى إداريون سابقون في سنوات حكم السودان، تضامناً مع التماسٍ قدّمه السّـفير السّـوداني آنذاك لسلطات الملكة لتجديد العقد. فوجئت الملكة إليزابيث بالطلب، فلم تجدّد العقد 30 عاما أخرى، ضاعفت فترة العقد إلى 60 عاما.
(6)
يعدّ مقرّ سـفارة السّودان في أحد العقارات الملكية في قلب لندن رمزا تاريخياً لعمق المكانة التي ظلّ يحتلها السّـودان، بغضِ النظر عن نوع النظام السياسي السائد فيه، في قلب الملكة الراحلة. لم يكن السّـودان عضواً في رابطة الكومنولث، ولكن لاعتبارات عديدة، ظلّ يحظى بعلاقات سياسية عميقة ومميزة عند التاج البريطاني، فكأنه حظي بعضوية شرفية وافتراضية في تلك الرابطة، والتي تشغل أمانتها قصراً يقع قبالة سـفارة السّـودان في شارع “كليفلاند راو”، بجوار قصر سانت جيمس التاريخي.
يحفظ السّـودانيون للملكة الرّاحلة اليزابيث الثانية تقديراً كبيرا، وقد غمرت أصداءٌ حزينة أنفاس أغلبهم، خصوصا من ذلك الجيل الذي شاهد تفاصيل زيارتها التي استمرّت أسبوعا للخرطوم ومدن أخرى .. لقد بكاها السودانيون على طريقتهم.
جمال محمد ابراهيم
العربي الجديد