منى أبوزيد تكتب : كمال الاكتمال..!
“الكتابة هي فعل تضامن تاريخي”.. رولان بارت..!
“محبوب المبارك” أحد أقرباء الطيب صالح كان رجلاً ظريفاً، أُميّاً لا يعرف القراءة والكتابة، ولم يسمع عن “الإبداع”، وبالتالي فهو لا يستطيع أن يُؤمِّن على مواطن العبقرية ومُوجبات الإكبار في تدوير حكايات قريته في قالب فني. فقد كان – هو الذي لا يفهم الفن – آخر مَن يستطيع أن يجزم بشأن تفرُّد الفنان..!
سمع المبارك برواية “موسم الهجرة إلى الشمال”، فطلب من أحد شباب القرية المتعلمين أن يقرأ له الرواية، أي أن يقصها على مسامعه، وبعد فراغه من تلك القراءة السماعية، وجد الرجل الأمي كلامه وكلام أقرانه مضمناً في حوارات أبطالها، فما كان منه إلا أن هتف بذكاء فطري حاد “دا ما ياهو كلامنا ذاتو، لكن فيهو شوية لولوة”..!
تلك “اللولوة” التي وصف بها الرجل عملية إعادة إنتاج مدخلات الواقع التي ينخرط فيها الكاتب هي الإبداع ذاته. إعادة خلق الواقع في رحم الفن، حيث تمتزج قناعات الكاتب الشخصية بشأن واقعه ورؤاه النقدية لمجرياته وفلسفاته في تحليله، وحيث ينقض الفنان غزل مدخلات واقعه الخام ويعيد نسجها، قبل أن يردها إليه رداً جميلاً..!
تلك “اللولوة” التي أخلَّ المبارك الأمي الظريف في تبسيطها هي طريق الخلاص الذي قال الطيب صالح على لسان إحدى شخصياته “إنه يكمن في تعميق الذات وتنقيتها من ذل الحياة ومهانات القمع”..!
تلك “اللولوة” هي رسالة الفن العظيمة التي قال عنها الطيب صالح بعمق الفنان “عندما أكتب أعمل كعالم الآثار الذي ينقب في الحفريات حتى تظهر لي الحقيقة في طبقة إنسانية معينة، ثم أظل أحفر حتى تظهر لي أشياء أخرى لها طبيعة التراكم، وهذا الحفر لا نهائي، ولا أحدٌ يصل إلى النهاية”..!
الموت الذي يقطع الموصول ويقصي القريب ويفضح عجز ونقص الإنسان وينفي عنه صفة الكمال، هو الذي يعلن أيضاً عن “اكتمال” بعض بني الإنسان. بعد صعود الروح ورحيل الجسد سيبقى الطيب صالح الكائن المُكتمل والحالة الوجودية الكاملة، والمنجز الأدبي، الأبدي..!
سيبقى طفل النوستالجيا وشمعة العبقرية الروائية التي أشعلها الحنين إلى الوطن، وحامل الوجع البدائي واللا نهائي. سيبقى الكاتب الكامل الذي جادل التاريخ، والأديب المتفرد الذي ناظر المجتمع، والفنان المتمرد الذي حارب العتمة بسلاح “الفن المُتعمّد”. سيبقى عالم الآثار الذي اكتشف المخبوء، وضابط الصّحة الذي عزل الداء وهزم عفونة التقاليد، وجرجر أذيال العادات اللزجة إلى حيث الضوء والحرارة والخلاص..!
رحم الله الطيب صالح، الجسد الذي رحل، والحالة الوجودية الخالدة. المُبدع المبتكر في عالمه والباقي بشروطه والحاضر أبداً ببقاء مهرجاناته الحيّة النبيلة على الورق. رحم الله الرجل الذي ملأ وجودنا بالمعنى، والكاتب الذي ثقب دوائرنا المصمتة فأدخل الهواء وأرسى مشروعية الصُّراخ، وفرَّغ الوجع السوداني من أورام الصّمت، بمبضع الأدب الرفيع..!
صحيفة الصيحة