هل تتناسب مكاسب التعدين الأهلي في السودان مع مخاطره؟
يقصد مناطق التعدين الأهلي للذهب في السودان التي تحولت إلى بحيرات تختلط فيها المياه برمال الصحراء وبالزئبق، عدد كبير من المواطنين والوافدين من بعض دول الجوار، وتحتشد بهم الأماكن المتنوعة بتنوع السودان وامتداداه، فأحياناً لا تكون مناطق التعدين سوى كثبان رملية، وفي مناطق أخرى تكون سهولاً منبسطة، وفي غيرها تكون جبالاً صلبة. ليس هناك موسم معين لهذا النشاط، فعلى مدار العام يتقاطر المنقبون على مناطق التعدين في سباق مع الزمن من أجل كسب سريع، فهو على رغم مشقته، فإن ممارسته في مناطق برية، تكاد تفارق سكونها المعهود من واقع الحراك الكثيف، هو أشبه بحال التمرد والتحرر من قيود طابع الحياة في المدينة أو القرية. كما يعكس تمرداً آخر على أسلوب الحياة الطبيعي إذ لا تتوفر الخدمات وأدوات العناية الشخصية، سوى تلك التي توفرها بعض النشاطات الاقتصادية الصغيرة من مطاعم متواضعة، وتجارة جوالة أُفردت لها خيام وأكشاك مؤقتة. وفيها ينتعش نشاط بيع وتجهيز أدوات التنقيب والتعدين والمخيمات، مثلما تنبض حيوية بتجهيز وتزويد المنقبين بالأدوات والتسهيلات اللازمة كما بخبرات من سبقوهم في هذا المكان، ويعمل عليها متعهدو التنقيب الذين يتقنون فن التسويق وتقديم كل ما يحتاجونه.
هذه هي الصورة التي وصلتنا من تلك المناطق، فلا يكاد بيت أو حي سوداني يخلو من الذين ذهبوا أو في طريقهم إلى مناطق التعدين، حتى لتتخيل أنها إحدى سبل متعة هواة البر، أو مساحة مفتوحة لولوج عالم المال الذي لا يكلف سوى اقتناء أدوات بسيطة. لكن الوجه الآخر يحكي أن هؤلاء مدفوعون بالأزمة الاقتصادية التي ضربت معظم فئات المجتمع السوداني، وأن الطريق إلى الذهب، على رغم جاذبيته، هو الخيار الأخير لما تترتب عليه من معاناة صامتة تتمثل في المخاطر الصحية الفادحة التي لا تقتصر على المعدنين وحدهم وإنما تمتد إلى المناطق السكنية حول المناجم التقليدية ومجاري الأنهار والأراضي الزراعية، وحتى التربة.
ويقول استشاري طب السموم السريري محمد الأمين “التعدين الأهلي هو أكبر مصدر للتلوث الخاص بالزئبق على الأرض، وما يحدث هو استعمال الزئبق العضوي أو السائل بغرض استخلاص الذهب من الصخور في شكل “ملغم”، ويتم فرزه باليد ويسخن على شعلة أو على فرن حتى يتبخر الزئبق ويعزل الذهب. وتكون المشكلة أثناء عملية التبخر، لأن المعدنين يستنشقونه ما يؤدي إلى فشل وظائف الرئة. أما الزئبق الذي يتم امتصاصه فهو يؤدي إلى مشاكل في الجهاز العصبي، وهناك قضايا صحية أخرى منها الفشل الكلوي الذي يحدث في حال تراكم الزئبق”.
ويضيف، “أما الآثار الأخرى فهي توجد بصورة كبيرة في الأطفال، لأنه يمكن أن يؤثر على تطورهم ونموهم البدني والدماغي العقلي، والنمو العام. والمشكة كبيرة في 70 دولة حول العالم تقريباً ما بين 10 و19 مليون نسمة يستخدمون الزئبق في التنقيب عن الذهب وتعدينه”. ويتابع “أما في ما يخص تلوث الزئبق في الأنهار، فإن الثروة السمكية تمتص الزئبق بتركيز عالٍ، خصوصاً أن المجتمعات المحلية حول الأنهار تعتمد على الأسماك في غذائها، ولذلك، فإن الشخص حتى لو لم يتعرض مباشرة للزئبق من خلال التعدين، فإنه يمكن أن يحصل من خلال الغذاء في المنطقة التي يكون فيها تلوث بيئي”. ويشير الأمين إلى أن “هناك دراسة نشرت عام 2018، وجدت أن السودان من الدول ذات الاستهلاك العالي للزئبق المستعمل لأغراض التعدين الأهلي، ويقدر ما بين 50 و100 طن سنوياً، ولا يفوقه إلا حوالى أربع دول تستهلك أكثر من 100 طن في السنة”.
ندرة العقاقير
أما عن إمكان العلاج، فيوضح استشاري طب السموم السريري أن “هناك عقاقير معينة يتم استعمالها في حالات التسمم بالمعادن الثقيلة مثل الزئبق والرصاص والحديد تعرف بالعوامل الخالبة، لها القدرة على التفاعل مع الأيونات الفلزية، وهي مكونة مركبات خاملة وثابتة تذوب في الماء، وبالتالي يستطيع جسد الإنسان التخلص منها، أما في حال الزئبق، فهناك مركبان معروفان بأسماء مختصرة، ولكن لا يوجدان في السودان، لأن مثل هذه المركبات لا يتم استيرادها بواسطة شركات الدواء نسبة لاستعمالها المتخصص والمحدود، لذلك تستورد فقط بواسطة الصندوق القومي للإمدادات الطبية”.
ويلفت الأمين إلى أن “الجانب الآخر لهذه العقاقير أنها أثناء استعمالها تحتاج لقياس تركيز الزئبق في الدم أو البول للتأكد من الحاجة إليها ونجاعة استعمالها، وهناك مختبر واحد أو اثنان في السودان يقومان بالتحليل الموجود، لكن التعقيد الآخر هو عدم وجود خدمة استعلامات خاصة بالسموم أو مركز مراقبة للسموم يقدم النصح والإرشاد المهني ليس فقط في هذا المجال وإنما في كل أنواع التسمم المهني والدوائي وغيره. كما يعاني السودان من ندرة اختصاصيي واستشاريي طب السموم السريري”، ويركز استشاري طب السموم السريري على “ضرورة توفر الملابس الواقية، وكذلك كمامات بمواصفات دقيقة تمنع استنشاق أبخرة الزئبق لأن الاستنشاق هو أهم مسار لدخول الزئبق إلى الجسم والتسبب في السمية سواء على الرئتين أو على باقي أعضاء الجسم”، ويؤكد “وجود خيار عدم استعمال الزئبق واستبداله بتقنيات مختلفة تقلل من تعرض المعدنين للخطر سواء في مراحل خلط الأحجار أم تبخير الزئبق”.
حالات تسمم
من جانبها، قالت اختصاصية طب الطوارئ بمستشفى إبراهيم مالك نجاح عبدالله، “عندما يأتي المريض من مناطق التعدين يكون هناك اشتباه في إصابته بالتسمم، فنقوم بالفحص اللازم للتأكد من نسبة الزئبق ومستوى تأثيره، ونتابع جهازه التنفسي ومستوى التشنجات ونسبة الوعي التي تعطي إشارات بأنها ناقصة بحسب نسبة الزئبق”، وتضيف أن “هناك مرضى كانت نسبة تسممهم عالية لدرجة تأثر جهازهم العصبي، وفي هذه الحال، لا تستخرج المواد السامة بالغسيل الدموي مثل حلات التسمم الأخرى، فهي تعتمد على نوعية السموم وارتباطها بالبروتين. وفي ظل عدم توفر الأدوية المعنية، نقدم دعماً للدورة الدموية، ويدخل المريض العناية المكثفة على أمل أن تقل نسبة السموم”. ولاحظت عبدالله أن “غالبية المرضى ليس لديهم الإدراك الكافي لمدى خطورة التعرض للزئبق، فبعضهم يمكث للعلاج وآخرون يطلبون الخروج للمتابعة في مستشفيات أخرى قريبة من مناطق التعدين”.
معادلة مختلة
وقال أستاذ الاقتصاد في جامعة “المغتربين” محمد الناير “مع توقعات انفصال جنوب السودان، بدأ التنقيب الأهلي كإجراء لتعويض فقدان السودان نسبة كبيرة من إنتاج النفط. وازداد معدل التعدين الأهلي بعد الانفصال عام 2011، وكان له انعكاسه على تصدير الذهب عام 2012، خصوصاً أن السودان كان يعتمد على عائدات النفط التي كانت تعطي نحو 90 في المئة من النقد الأجنبي من عائدات تصديره وأقل من 10 في المئة من الصادرات الأخرى، وكانت معادلة مشوهة، ذلك أن إيرادات النفط كانت تمثل أكثر من 50 في المئة من الموازنة وهي أيضاً معادلة مختلة وأثرت في الموازنة العامة للدولة وميزان المدفوعات الخارجي”. وأضاف “في عام 2012، كان عائد تصدير الذهب حوالى 2.2 مليار دولار، ولم يقترب من هذا الرقم إلا العام الماضي 2021 حيث تجاوز ملياري دولار، و80 في المئة منها تعدين أهلي، ما يعني أن التعدين المنظم نسبته قليلة، حوالى 20 في المئة”.
وتابع أستاذ الاقتصاد أن “فائدة التعدين المنظم أعلى من الأهلي بالنسبة للاقتصاد لأنه يتم من خلال منح شركات تعدين مربعات وتسهل متابعتها من قبل شركة السودان للموارد المعدنية، الذراع الرقابية للدولة، ومعرفة نصيب الدولة منها، فمعظم عمليات تهريب الذهب تتم عبر التعدين الأهلي لأنه يصعب السيطرة عليه في بلد مترامي الأطراف وحدوده طويلة وممتدة مع دول الجوار، أبرزها مع دولة جنوب السودان بنحو أكثر من 2000 كيلومتر”. وأشار إلى أن “بعض حالات التهريب الخاصة تكتشف عبر المنافذ مثل مطار الخرطوم والمنافذ الأخرى ما يستلزم إحكام الرقابة عليها. وبينما يسهم قطاع التعدين الأهلي في تحسين الوضع الاقتصادي ومعالجة القضايا الاقتصادية، وخلق عائدات الصادر التي تساعد الاقتصاد في استجلاب السلع الأساسية والضرورية، لكن في الوقت نفسه، يسهم في إهدار موارد البلاد من خلال التهريب إلى الخارج”.
خطة الاستفادة
وذكر الناير أنه “للاستفادة من قطاع التعدين الأهلي بصورة حقيقية، هناك خطة وضعتها وزارة المعادن بالتنسيق مع هيئة الأبحاث الجيولوجية والشركة السودانية للموارد المعدنية لتحويل القطاع التقليدي إلى قطاع منظم. واستندت هذه الرؤية إلى أن كثيرين من المعدنين التقليدين تحسن وضعهم المالي، ما يمكنهم من امتلاك مربعات صغيرة. ويمكن استجلاب آليات والتنقيب في مساحة محددة، ويكون بذلك انتقل من قطاع تقليدي إلى منظم ما يعود بالفائدة على الاقتصاد”. وتابع، “إذا نجحت الوزارة وروافدها في تطبيق هذا الأمر بصورة جيدة على كل مناطق نشاط الإنتاج وأعلاها إنتاجاً هي ولاية نهر النيل، فهو أنسب من خيار إيقاف التعدين التقليدي بصورة قاطعة لأن الإيقاف سيؤدي إلى تعقيدات في المشهد السياسي والاقتصادي والاجتماعي”، وأضاف “أهم السياسات المشجعة، كذلك، إنشاء بورصة الذهب وسوق منظمة للقطاع وإيقاف التهريب ووضع خطة لتحويل التعدين من أهلي إلى منظم وأن تمنح الدولة حوافز تشجيعية وتشجع الاستثمار الأجنبي في هذا المجال”.
ورأى الناير أن “إيقاف التعدين التقليدي للذهب يمكن أن يخلق أزمة لأن أكثر من مليوني شخص يعملون في هذا القطاع، في التعدين، بشكل مباشر والأنشطة المصاحبة له بشكل غير مباشر. وإذا كان لكل شخص من هؤلاء متوسط عدد الأسرة من خمسة أشخاص، فإن 10 ملايين شخص أي ربع التعداد السكاني، سيتأثرون، لأنهم يعيشون على هذا القطاع وعلى عائداته، لذلك من الصعب إيقاف التعدين الأهلي في الوقت الراهن”. وقال الناير أيضاً “يحتاج قطاع التعدين إلى الاهتمام بالمعادن الأخرى المتوفرة في السودان، فهناك أكثر من 30 معدناً، وبعضها له قيمة عالية تفوق الذهب، ما قد يخلق طفرة نوعية في الاقتصاد السوداني، فالتعدين التقليدي للذهب على رغم فائدته الاقتصادية الكبيرة، لكن تصحبه مخاطر بيئية وصحية كبيرة أيضاً، لن تعالج إلا بتحويله إلى قطاع منظم”.
غياب التشريعات
ومما يجدر ذكره أنه على رغم تصاعد الاحتجاجات في المجتمعات المحيطة بمناطق التنقيب العشوائي بسبب تأثيرها الخطير على الصحة، وتراكم أكوام النفايات السامة قرب المناطق الزراعية ومصادر المياه والمناطق السكنية، فإنه ليس هناك قانون مفعل سوى مرسوم أصدرته حكومة الفترة الانتقالية عام 2019، يحظر استخدام الزئبق والسيانيد، ولم يرتق إلى قانون مفعل بسبب غياب التشريعات وفقاً للظروف السياسية التي تمر بها البلاد. كما أن السودان لم يلتزم باتفاقيات دولية في هذا الخصوص، وبحسب ما أوضح استشاري طب السموم السريري محمد الأمين أن “السودان وقع على اتفاقية ميناماتا التي من شأنها الحكم على التعامل بالزئبق ونفاياته، التي دخلت حيز التنفيذ عالمياً في 16 أغسطس (آب) 2017، لكن لم يتم إقرار الاتفاقية رسمياً من جانب الحكومة السودانية بواسطة مجلس تشريعي”.
مني عبد الفتاح
إندبندنت عربية