ليست ثمة طريقة رشيقة لتخسر ثورة: عن عودة نظام الإنقاذ للحكم
لم يقض خارج الحكم سوى سنوات ثلاث غير كافية للتعلم أو النسيان
لم تعد استعادة نظام الرئيس السابق عمر حسن أحمد البشير الذي خلعته ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2019، موقعه في الحكم موضوعاً للنذر منه بقدر ما صار حقيقة مشاهدة. فلما استنفر ياسر عرمان، القيادي في تجمع الحرية والتغيير (المركزي) قبل أيام القوى العالمية والإقليمية لتتحسب إلى أن المؤتمر الوطني، حزب النظام القديم، “يقترب من العودة إلى السلطة… وأصبحوا في أقرب نقطة للاستيلاء على السلطة مرة أخرى”، قال له الصحافي عثمان ميرغني ربما أبطأ نداؤك، فهم قد سبقوا إلى ما تخوفت منه: إنهم في السلطة. وكان المفكر الإسلامي حسن مكي سبق بالقول منذ زمن إن “النظام القائم هو الصف الثاني من نظام الإنقاذ، أي دولة البشير”.
وقطعت عودة محمد طاهر إيلا، الرئيس الأخير للوزراء في نظام الإنقاذ قبل الثورة، في الأول من أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، قول كل خطيب. فعاد بعد إقامة بمصر بعد سقوط نظامه وسط حفاوة غزيرة في إقليمه بشرق السودان شقت عنان السماء. واستبشر أنصار المؤتمر الوطني برجوعه استبشاراً أحصوا كل غائب منهم في العالم بعد الثورة وانتظروا عودته. بل بادرت أسر لمعتقلين من النظام القديم ما زالوا وقبائل بحملات لإطلاق سراحهم. وخاطب إحداها إبراهيم غندور، رئيس المؤتمر الوطني المكلف، قائلاً كيف نعود إلى وطننا ومواقعنا في حين نوصف من الخصوم بـ”النظام المباد”، فكيف يعود المباد؟
خاطب إيلا حشد مستقبليه في مدينة سنكات عن شرعية مطالبهم بحقهم في السلطة والثروة على قدم المساواة مع إخوتهم في الوطن، وأضاف أنه إذا لم تستجب مطالب الشرق “سنضطر إلى الرفض، وعندها ربما نحتاج إلى وسائل أخرى” لأن الموت من أجل أهلهم وأرضهم وحقهم شرف. وربما لمح هنا إلى ما ناله إقليم دارفور من هذه القسمة باتفاق سلام جوبا (2020) بعد حرب منذ 2004. وهي حرب قيل إن ما أغراهم بها نيل الجنوب حظه من هذه القسمة باتفاق نيفاشا (2004) واتفاق السلام الشامل بين الحكومة والحركة الشعبية لتحرير السودان في 2005. وكان اتفاق سلام جوبا في حد ذاته وما اتصل بشرق السودان منه هما الباعث لثورة الشرق التي قادتها إدارات أهلية ترّست فيها الشريان بين الميناء على البحر الأحمر وبقية القطر، مما أدى إلى سقوط الحكومة الانتقالية بانقلاب 25 أكتوبر 2021.
كانت عودة إيلا للسودان بمثابة رأس جبل الجليد لجملة إجراءات وقرارات وممارسات استعاد بها طاقم حزب المؤتمر مواقعه في مؤسسة الدولة.
فتكفل القضاء بإلغاء كل قرارات لجنة تفكيك تمكين نظام الثامن والتسعين (الإنقاذ) الثورية بجرة قلم وصفها أحدهم بـ”المسح بالاستيكة”. وأظهر القضاء همة عظيمة في هذا السبيل حتى قال وجدي صالح، أبرز قادة اللجنة الثورية، إن ما يقوم به القضاء هو ثورة مضادة بالروب. فرد القضاء كل مال مصادر من اللجنة إلى سيده وأعاد كل مفصول من العمل إلى موقعه. وكانت آخر قراراته إعادة تسجيل 23 منظمة وجمعية حلتها اللجنة الثورية لاتهامها بالتداخل مع النظام الحاكم، أو إثراء أفراد محسوبين على ذلك النظام منها. كما فك القضاء 152 حساباً مصرفياً كانت جمدتها اللجنة بما في ذلك حسابات لإيلا العائد وأبنائه. وسبق لانقلاب أكتوبر 2021 أن حل اللجنة نفسها وأنشأ أخرى في محلها استلمت مقرها من دون الإجراءات المتبعة في التسليم والتسلم الديواني كما اشتكى أعضاء في اللجنة المحلولة.
ولم تخل ممارسة استعادة النظام القديم من ضروب من العنف مباشراً وغير مباشر. فعطلت النيابة موقعاً لصحيفة “السوداني” على الإنترنت وصار استدعاء النيابة لأعضاء من لجنة التمكين للتحقيق في فسادهم هم ذاتهم خبراً معتاداً ووصف أحدهم النيابة في ما تقوم به بأنها “أنشط خلايا نظام المؤتمر الوطني”. ويقع العنف المباشر عادة من رجال يوصفون بـ”الملثمين” أو “لابسي الكدمول”، والأخير ما اشتهر بلبسه مسلحو حركات دارفور. فاعتدت جماعة منهم على نقابة المحامين بالعصي والسيخ خلال جلسات مناقشة دستورهم الانتقالي. واعتدت جماعة منهم على بيت وجدي صالح الذي كاد أن يكون الاسم الأول للجنة إزالة تمكين نظام الإنقاذ واحتج على انصراف النيابة العامة عن شكواه لهم بالتحقيق في الواقعة، بل نشر الحزب الشيوعي بياناً عن تتبع بعضهم لسكرتيرهم العام مختار الخطيب ويلقى شباب المقاومة الأمرين منهم. فتقوم جماعات من هؤلاء الملثمين باعتقالهم أو حرق شعورهم الجثلة على قارعة الطريق أدبة لهم في حين يراجع القضاء أحكام إعدام صدرت بحق عناصر في الأمن لقتلهم متظاهري ثورة ديسمبر فيلطفها للسجن والدية.
أما جبهة الثورة، فتلقى استعادة النظام القديم على هوان سياسي عظيم من جهتين، مفاهيمية وتنظيمية. فمن جهة المفهوم تجد من يرد فشل حكومتهم الانتقالية إلى علل في أدائهم. فتبدو لهم عودة النظام القديم كعقوبة لا معدى عنها. فيذكر كل فريق منهم أخطاء في أداء الحكومة الانتقالية في ما يشبه تجديد الخلافات التي ضربتها خلال عهدها، فتجد الحزب الشيوعي يقول مثلاً إنه لا يعفي نفسه من الشراكة في أزمة الحكومة الانتقالية ولكنه برؤ من العيب بعدما خرج على رفاقه في الحرية والتغيير واعتزلهم، ويرد بعضهم الأزمة إلى يوم توقيعهم اتفاق الشراكة مع المجلس العسكري في 2019 لإدارة الفترة الانتقالية، أو تجد من يقول إن سبب الأزمة هو في تسليم الحكم لأحزاب الحرية والتغيير. ويخرج المرء بانطباع أن هؤلاء الثوريين على عقيدة أنهم إذا “لعبوها صاح” خلال الفترة الانتقالية لما كان بوسع النظام القديم أن يجد موطئ قدم بعد إطاحته وهي عقيدة قلّ أن صدقت في السياسة. وكما في السفن في قول أحدهم، فمن صنعها يعرف أنها ربما غرقت في يوم ما. واستعادة النظم القديمة لسلطانها بعد ثورة أمر معلوم وعلى كل فليس من طريقة رشيقة لتخسر ثورة.
أما هوان صف الثورة من جهة التنظيم، فيتمثل في أنها صارت طوائف “سلام الله ما بينها” كما نقول في السودان. فأمس القريب فقط أعلنت لجان المقاومة، خافق الثورة لا تزال، حلها للحرية والتغيير المركزي. لم تفعل ذلك بقول صريح بالطبع ولكنها دعت أحزابها ومفرداتها فرادى إلى مناسبة توقيع ميثاق سلطة الشعب الذي تواثقت عليه لجان المقاومة في الخرطوم وغيرها من المناطق. وساء المركزي هذا الغض من شأنه فاعتذر نيابة عن مكوناته من حضور المناسبة وقال إنهم سبق واحتجوا على الحزب الشيوعي الذي رفض صريحاً أن يتعامل مع هذه المكونات فرادى لا ككتل في كيان يشكل جبهة سياسة عريضة، وقال المركزي إنه يتمسك بالتعامل معه ككتلة واحدة، ومتى لم يشأ أحد أن يتعامل معهم كما هم فهذا عدم اعتراف غير مبطن بهم كتحالف سياسي مشروع.
عودة النظم المخلوعة سنة في السياسة والحكم، فعادت في 1660 أسرة ستيوارت لحكم إنجلترا بعد إقصائها منه لـ11 سنة بثورة أوليفر كرومل وابنه ريتشارد. كما عادت أسرة البوربون للحكم في 1814. وبقيت الملكية في إنجلترا إلى يوم الناس هذا لأن الاستيوارت تصالحوا مع حقائق جدت قبل طردهم ومنذها، فتواضعوا على ملكية دستورية في طور جنيني أعطت البرلمان حق فرض الضرائب وجمعها والتصرف فيها دون الحقوق الأخرى التي صارت للبرلمان على مر الزمن. أما الملكية في فرنسا، فذهبت أدراج الرياح لأن الملك شارل العاشر انقلب على اعتدال والده واشتغل بطلب استعادة النظام القديم السابق للثورة الفرنسية في 1789 بحذافيره، فأطاحته ثورة أخرى في 1830 ثأرت بها ليبرالية الثورة الفرنسية لنفسها منه، ولهذا قيل إن البوربون لم يتعلموا شيئاً ولم ينسوا شئياً.
سيكون عارض النظام القديم في السودان، إذا ثبتت استعادته، أنه لم يقض خارج الحكم سوى سنوات ثلاث غير كافية للتعلم أو النسيان، أو أنه لم يتفق له طوعاً التعلم والنسيان بعد. وله الخيار مع ذلك أن يكون الاستيوارت فيمكث في الأرض معدلاً أو البوربون فتذروه الريح.
عبد الله على ابراهيم
إندبندنت عربية