كيف نفهم التعاطي المصري مع السودان بعد عودة “الميرغني” إلى الخرطوم؟
أعاد رجوع السياسي السوداني رئيس الحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل، محمد عثمان الميرغني، مرشد “الطريقة الختمية” (حركة صوفية شعبية)، إلى الخرطوم بعد نحو 10 سنوات قضاها في مصر، الضوء على تعاطي القاهرة مع تطورات الوضع في السودان، التي تمثل وفق التصريحات الرسمية “امتداداً حيوياً لأمن البلاد القومي”.
وعاد الميرغني إلى بلاده الإثنين الماضي 21 نوفمبر (تشرين الثاني)، مستقلاً طائرة مصرية خاصة، مع وداع رسمي من البلد المضيف له طوال العقد الأخير، وذلك بالتزامن مع تواتر أنباء سودانية تفيد بترجيح التوصل لتفاهمات بين قادة السودان العسكريين والقوى المدنية الأخرى، وعلى رأسها ائتلاف قوى الحرية والتغيير الحاكم السابق، قد تفضي إلى خروج الجيش من السياسة في محاولة لكسر الجمود الذي يسيطر على المشهد منذ اعتلائه السلطة قبل نحو 13 شهراً، ومن ثم وقف الانتقال السياسي الذي أعقب إطاحة الرئيس السابق عمر البشير عام 2019.
إلا أنه فيما يشير البعض إلى احتمالات أن تحدث عودة الميرغني “توازناً” في المشهد السوداني، لما يتمتع به من نفوذ وسط الأحزاب الاتحادية وطائفة الختمية ذات الامتداد الواسع بخاصة شرق البلاد وشماله، كان لافتاً رفض الميرغني، الذي يرتبط بعلاقات وثيقة بالسلطات المصرية، وكان حزبه الديمقراطي الاتحادي الأصل يدعم عند تأسيسه الحفاظ على الوحدة مع مصر بعد استقلال السودان في عام 1956، أي اتفاق محتمل بين الجماعات المؤيدة للديمقراطية والجيش، وذلك بعد يومين فقط من الوصول إلى السودان، ما يطرح الأسئلة في شأن الرؤية المصرية لتطورات الأحداث في جارتها الجنوبية.
تحرك مصري “هادئ”
في الوقت الذي لا تزال تسيطر فيه الضبابية على المشهد السوداني، وسط تضارب تصريحات القوى الفاعلة في المشهد بشأن الوصول إلى اتفاق سياسي ينهي الأزمة الحالية التي تعيشها البلاد منذ أكثر من عام، “تراقب القاهرة عن كثب تطورات الأوضاع في الجارة الجنوبية خوفاً من تشكل مشهد في ذلك البلد المهم قد يفضي بإبعادها خارج معادلاته الفاعلة”، بحسب ما يقول مراقبون.
ويقول مصدر دبلوماسي في حديث مقتضب لـ”اندبندنت عربية” إن “للقاهرة اتصالات جيدة مع جميع القوى السياسية سواء التقليدية منها أو حتى ما ظهر وزنه في معادلة ما بعد إطاحة نظام عمر البشير في عام 2019″، مضيفا، “لا تدفع مصر باتجاه تشكيل حكومة بصيغة معينة، بل إن أهدافها ترتكز على أهمية عودة الاستقرار والأمن والوصول لحلول توافقية تشمل جميع الأطراف في الجارة الجنوبية مع تأكيد عمق الروابط التاريخية والثقافية والاقتصادية والسياسية التي تجمع بين البلدين”.
من جهته يقول مصدر دبلوماسي سوداني مقيم في القاهرة إن “من يتابع عن كثب الموقف المصري تجاه التطورات السياسية التي يشهدها السودان على مدار العام الأخير يجد أن القاهرة تفضل العمل عبر الاتصالات غير المعلنة مع أطراف المشهد دون إظهار أي دعم مباشر وواضح لأحد الأطراف”، موضحاً أن “هذا الموقف وإن كان بعكس مواقف مصرية سابقة إلا أنه يتسق مع حذر القاهرة من خروج الأوضاع في السودان عن السيطرة أو الرهان على طرف ما قد يأتي بنتائج عكسية بالنسبة إلى مصر في ظل حالة السيولة التي يشهدها المشهد السوداني”.
ويتابع المصدر السوداني، “لم تدعم القاهرة بشكل معلن أي مبادرة أو عملية تسوية مباشرة بين المدنيين والعسكريين في السودان طوال العام الماضي، لكن في الوقت ذاته أبقت الاتصالات مفتوحة مع جميع الأطراف لتثبيت أوضاعها وسط القوى السياسية بعد أن أصاب دورها خفوت وتراجع في أعقاب إطاحة البشير”، مشيراً إلى “دور أكبر للسلطات المصرية المعنية بالتعاطي مع الملف السوداني خلف الأبواب”.
البرهان يجمد النقابات المهنية في السودان
كذلك يضيف المصدر السوداني قائلاً، “الأطراف المحلية والإقليمية تدرك أهمية الخرطوم بالنسبة إلى القاهرة، في المقابل تحاول مصر هندسة موقفها بشكل يتيح لها باستمرار القدرة على التعاطي مع أية تطورات قد تؤثر في مصالحها في السودان”.
وبمجرد تفرد المؤسسة العسكرية في السودان بالحكم في أكتوبر (تشرين الأول) 2021، أعلنت وزارة الخارجية المصرية حينها “متابعتها عن كثب التطورات في السودان الشقيق”، مؤكدةً “أهمية تحقيق الاستقرار والأمن للشعب السوداني والحفاظ على مقدراته والتعامل مع التحديات الراهنة بالشكل الذي يضمن سلامة هذا البلد”، وشددت على أن “أمن واستقرار السودان جزء لا يتجزأ من أمن واستقرار مصر والمنطقة”.
ومنذ ذلك التاريخ تبادل البلدان الزيارات رفيعة المستوى، وجاء موقف القاهرة على عكس ما دعت إليه أغلب العواصم الإقليمية والدولية، بمطالبة رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان، بـ”الإعادة الكاملة والفورية للحكومة والمؤسسات الانتقالية بقيادة مدنية”، إذ بحسب مصادر مصرية مطلعة تحدثت لـ”اندبندنت عربية”، كثفت القاهرة اتصالاتها مع الأطراف السودانية، لا سيما قيادات المجلس العسكري، في محاولة منها لاحتواء الأوضاع والحيلولة دون انفجارها.
وقال أحد المصادر في حديث مقتضب، إنه خلال التحرك المصري في السودان، طرحت القاهرة مبادرة على بعض الأطراف، كان من بينها “اختيار شخصية مدنية متوافق عليها من قبل الأطراف، أو إعادة رئيس الوزراء المقال عبدالله حمدوك لقيادة الحكومة لامتصاص غضب الشارع، مع العمل على التوصل لاتفاق بين المدنيين والعسكريين لتقاسم الحقائب الوزارية”.
ماذا تريد القاهرة؟
بحسب مراقبين تحدثوا لـ”اندبندنت عربية”، تحكم السياسة المصرية تجاه السودان مجموعة من المحددات الأساسية، فبجانب الروابط التاريخية والجغرافية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية التي تجمع بين البلدين، يبقى التعاون في ملفات عديدة أخرى على المستوى الإقليمي وعلى رأسها ملف سد النهضة المثير للجدل الذي تبنيه إثيوبيا على النيل الأزرق، محور تركيز لتعاطي القاهرة مع الملف السوداني.
وبدت مواقف القاهرة والخرطوم “متطابقة إلى حد بعيد” في ما يتعلق بما يعتبرانه “آثاراً سلبية” متوقعة للسد الضخم على أمنهما المائي والقومي، بعكس التوجه الذي كانت حكومة الرئيس السوداني السابق عمر البشير تتبناه قبل إطاحته في عام 2019، إذ تتمسك البلدان بالتوصل إلى اتفاق قانوني عادل ومنصف وملزم لعملية ملء وتشغيل “سد النهضة” الإثيوبي لضمان استمرار تدفق حصتهما السنوية من مياه نهر النيل.
ومع استمرار حالة الضبابية في المشهد السوداني السياسي، توقع مراقبون أن تحقق عودة الميرغني توازناً في المشهد وأن تعجل بالتوافق الوطني، على رغم أن الحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل كان قد انشق في مواقفه التحالفية في الآونة الأخيرة، ويبني المراقبون مواقفهم تلك على ما يتمتع به حزب الميرغني من نفوذ وسط الأحزاب الاتحادية وطائفة الختمية، كما أن حزبه جزء من تحالف الحرية والتغيير الذي يضم الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق جوبا للسلام ومجموعات أهلية أخرى.
ويقول السفير صلاح حليمة، نائب رئيس المجلس المصري للشؤون الأفريقية، “ما شهده السودان منذ أكثر من عام بعد سيطرة المكون العسكري على السلطة وتنحية الطرف المدني، ينبغي التعاطي معه من قبل الأطراف الإقليمية والمحلية انطلاقاً من المصالح العليا للبلاد، التي تتطلب التوافق بين جميع الأطراف دون إقصاء أو تهميش لأحد”، مضيفاً، “دائماً ما تمتاز علاقات القاهرة بالخرطوم بخصوصية تحكمها الروابط الجغرافية والتاريخية، فضلاً عن المصالح المشتركة ونهر النيل، ما يعني أن الاستقرار والأمن والحفاظ على وحدة الجار الجنوبي وسلامة أراضيه، يمثل أهمية قصوى لمصر”.
ويتابع حليمة، “يرتكز الموقف المصري تجاه التطورات السودانية الراهنة على أهمية الوصول لتوافق بين جميع الأطياف والمكونات ودعم خيارات الشعب السوداني”، وعليه، وفق حليمة “تحافظ القاهرة على اتصالاتها المفتوحة مع جميع القوى السياسية دون الانحياز لطرف على حساب آخر، مع تأكيد أهمية وجود المكون العسكري في المعادلة انطلاقاً من شرعية الأمر الواقع التي اكتسبها بعد اشتراكه مع القوى المدنية في إطاحة حكم البشير”.
ومع التعبير عن رغبة في تراجع دور المؤسسة العسكرية في السودان لصالح القوى المدنية، ذكر حليمة أن “القاهرة تدرك أن المرحلة الانتقالية التي يمر بها السودان لا يمكن فيها إقصاء أحد المكونات، وعليه ينبغي التوافق على شكل مستقبل البلاد بما يقود في النهاية لتلبية طموحات الشعب السوداني”.
ووفق السفير إبراهيم الشويمي، مساعد وزير الخارجية المصري السابق للشؤون الأفريقية، يأتي توقيت عودة الميرغني للسودان، بما يتوافق مع حرص القاهرة على تسريع وتيرة التوافق بين الأطراف السياسية السودانية، وذلك لما يتمتع به زعيم الحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل من “كاريزما وانتشار وقبول في الأوساط السودانية”، مشيراً إلى استمرار القاهرة في فتح قنوات اتصال مع الأحزاب السياسية السودانية المختلفة، لتأكيد أهمية إبقاء التعاون والتنسيق في أحد الملفات التي تمثل أولوية قصوى، وهي ملف سد النهضة وأمن المنطقة.
وزار رئيس المجلس السيادي السوداني عبد الفتاح البرهان القاهرة، بشكل رسمي، في شهري مارس (آذار) وسبتمبر (أيلول) الماضيين، كذلك استقبلت القاهرة في أكثر من مناسبة وفوداً حزبية وسياسية سودانية، كان آخرها زيارة وفد من حزب الأمة القومي في أكتوبر الماضي.
إندبندنت عربية