ما كواليس محاولة التوافق السوداني؟
منذ إعلان قوى تحالف الحرية والتغيير في السودان التوصل إلى اتفاق إطاري مع المكون العسكري، الذي ربما يكون نهائياً خلال الفترة المقبلة، والساحة السياسية حبلى بتضاغط كبير بين جميع الأطراف.
يرجع ذلك لسبب جوهري هو أن الاتفاق وطبيعة قضاياه ستحدد الأوزان السياسية لأطرافه خلال المرحلة المقبلة، كما ستنعكس على البيئة الانتخابية المرتقبة في حال قدرته على الاستمرار والصمود حتى عقد الاستحقاق.
محتوى الاتفاق المرتقب من المتوقع أن يكون في إطار مسودة مشروع الدستور الانتقالي، الذي أنجزته نقابة المحامين السودانيين تحت مظلة دعم دولي، لكن مع تعديلات تطرحها الأطراف المعنية لتخطي نقاط الخلاف، وهي المنتظرة خصوصاً من المكون العسكري بشقيه.
ربما يكون من اللافت أن حال الرفض الشامل لمجهودات التوافق السياسي جاءت من أقسام في القوى التقليدية، وأقسام أخرى من القوى الحديثة بمشهد يعكس عمق انقسام الحالة السياسية السودانية وتعقدها، وربما الفرص المحدودة المطروحة لتدشين عملية سياسية لمرحلة الانتقال السوداني.
تحريض الإسلاميين
في هذا السياق فإن المشروع الدستوري المطروح لتوافق الأطراف تحت مظلته يعتبره الإسلاميون، حزب المؤتمر الوطني المنحل، يسهم بشكل مباشر في استبعادهم من المعادلة السياسية المستقبلية، وله تأثير سلبي أيضاً في مصالحهم الاقتصادية.
من هنا فإنهم يحاولون التحريض ضده باستعمال أدوات الخطابات الشعبوية تحت عنوان أن مبادرة المحامين هي تعبير عن تدخل أجنبي، كما أنهم سيروا أكثر من تظاهرة في محيط بعثة الأمم المتحدة ضد مجهوداتها لدعم التحول الديمقراطي، بل وهاجموا مقر نقابة المحامين نفسها.
النقيض السياسي للإسلاميين هم التحالف الجذري الذي هو بين قسم من لجان المقاومة الشبابية والحزب الشيوعي، وهم الفريق الذي يرفض أصلاً أي حوار سياسي مع المكون العسكري، ويسهم بشكل فعال في المجهود الاحتجاجي الثوري، وتبدو أجندته وآلياته مستبعدة الأدبيات المتعارف عليها عالمياً في ما يتعلق بمتطلبات مراحل الانتقال وأدواتها.
وذلك راجع لسببين، ضعف صدقية المكون العسكري من ناحية، وإدراك أن الضغوط الدولية هي مرتبطة بمصالح أطرافها أكثر منها مرتبطة بدعم عملية التحول الديمقراطي من ناحية أخرى.
انقسام الأحزاب التقليدية
أقسام من الأحزاب التقليدية، التي تشهد انقسامات، أي حزبي الأمة والاتحادي، ترفض أيضاً مشروع الدستور الانتقالي باعتباره عنواناً لزيادة أوزان القوى الحديثة السودانية وتتماهى في ذلك مع أطراف إقليمية تخشى أيضاً من تلك القوى، لأنها تسعى إلى انتقال ديمقراطي من ناحية، ولأنها مهددة لمؤسسة الدولة بانقساماتها من ناحية أخرى.
ربما حالتا الحسن الميرغني، الذي تم منعه في مطار الخرطوم من استقبال أبيه راعي وإمام الطائفة الختمية محمد عثمان الميرغني والمقبل من القاهرة، وكذلك الصديق المهدي في حزب الأمة وطبيعة علاقته ببقية أطراف بيت المهدي، تشكلان عنواناً للمعارك المحتدمة حالياً في كواليس البيتين الختمي والأنصاري والمنعكسة على الأحزاب تاريخياً بطبيعة الحال.
هذا الاتفاق المبدئي، في حال التوقيع عليه، من شأنه أن يغير من أوزان أطراف المعادلة خصماً وإضافة طبقاً لعاملين، الأول التفاعلات المحلية وامتداداتها الإقليمية، والثاني قدرة رعاة هذا الاتفاق على ممارسة دفع ودعم في مبادرتي الثلاثية والرباعية للاتفاق من كل جوانبه التفصيلية ومع جميع أطرافه.
يمكن القول إن استعدادات القوى السياسية للتفاعل مع تداعيات الاتفاق المتوقع متنوعة، فعلى صعيد الحزب الاتحادي الأصل اتخذ محمد عثمان الميرغني قراراً بالعودة للخرطوم، وفي السياق نفسه تم تدشين الكتلة الديمقراطية بزعامة ابنه جعفر الميرغني، وهي الكتلة المتوافقة مع تحالف التوافق الوطني، الذي هو قريب من المكون العسكري، ورموزه الأهم جبريل إبراهيم ومني أركو مناوي.
بطبيعة الحال، فإن الحزب الاتحادي الأصل بهذا التحرك يحاول أن يحافظ على مكانه ووزنه في المعادلة الجديدة، التي غالباً ما ستقود إلى الانتخابات، كما يتم بذلك حسم تموضع الحزب وموقفه من أساس الاتفاق ومشروع الدستور الانتقالي، وأخيراً محاولة حسم الصراع مع أطراف أخرى داخل البيت الختمي.
المكون العسكري
أما قضايا التضاغط بين الأطراف السياسية فربما يكون أكثرها حساسية يقع في المكون العسكري، وهو ما يتعلق بالإصلاح الأمني وما يرتبط به من ترتيبات، وفقاً لاتفاق جوبا، حيث يوجد اتجاه بتعديله، وحذف بعض المسارات فيه، وذلك في ضوء ما أفرزه من معضلات سياسية خصوصاً بشرق السودان.
كما أنه وطبقاً لتقييمات فنية وأكاديمية، يفرز تحديات سياسية أكثر ما يقدم حلولاً للوضع المأزوم، وربما يكون من المهم في هذه النقطة الإشارة إلى ما قامت به مؤسسة فكرة السويدية من تقييم أكاديمي لاتفاق جوبا، حيث أشارت إلى أن مشكلات الترتيبات الأمنية فيه غير منظمة مركزياً، فكل جزء من السودان سيكون له آلياته ومؤسساته الخاصة إذ سيكون من الصعب إدارة العلاقة بين هذه الآليات المختلفة.
وفي ما يخص اللجنة العسكرية العليا المنوط بها عملية التنفيذ، فإن صلاحياتها وتكوينها تم طرحها في بابين من الاتفاق، لكن الأحكام المختلفة المرتبطة بها متشابهة على رغم أنها غير متوافقة بشكل كامل فيما بينها، كما أنه ليس من الواضح كيف ستتم معالجة ذلك عند التطبيق، لأن اختلاف الصياغات يعكس اختلاف التصورات بشأن آلية عمل اللجنة على أرض الواقع.
وبعيداً من الجزء الفني، فإن الجزء السياسي أكثر تعقيداً، ذلك أن الطرف الأهم في هذه الترتيبات هو محمد حمدان دقلو (حميدتي) الذي أرسل بـ31 تعديلاً على مشروع الدستور الانتقالي، جزء منها هامشي وآخر يحاول أن يوصم به الاتفاق من طرف خفي، كإشارته إلى خلو الاتفاق من البسملة مثلاً.
وبعيداً من ذلك، فإن حميدتي ظل يقاوم الانخراط في الترتيبات الأمنية طوال العامين الماضيين، مطالباً بأن تنخرط بقية الفصائل المسلحة قبله، ومستخدماً قلة الموارد المالية لتنفيذ الاتفاق، لكن ربما الأخطر من ذلك هو إقدام حميدتي وبقية الفصائل المسلحة على المبالغة في إعداد قواتهم، والقيام بتجنيد بعضهم بشكل سريع، وذلك لتحقيق غرضين، الأول أنه في حال تنفيذ الاتفاق يكون الانتشار في الأجهزة الأمنية والعسكرية كبيراً ومؤثراً، ومن ناحية أخرى يتم تعويق تنفيذ الاتفاق وتأخيره بطرق خلفية، نظراً إلى تزايد كلفته المالية.
السبب الأهم
ربما يكون السبب الأهم هو ضمان مخزون بشري مسلح ومدرب يكون جاهزاً في حال تجميد التوافقات السياسية أو انهيارها، وهي حال معروفة في أفريقيا عموماً والسودان خصوصاً، ولعل حال تمرد جون قرنق على اتفاق السلام بالسودان مطلع ثمانينيات القرن الماضي بعد 10 سنوات من إبرامه مثالاً ما زال حياً في الذاكرة السودانية.
في المقابل، فإن المؤسسة العسكرية الرسمية، أي القوات المسلحة السودانية، تحافظ في خطابها المعلن عبر الفريق عبدالفتاح البرهان بمقولات شبه ثابتة، منها أنه بمنأى عن أي قوى سياسية من حيث إجراء اتفاقات ثنائية بين القوات المسلحة وبين هذه القوى أياً ما كانت، وذلك لما يعلمه البرهان من انعكاس ذلك على الأوزان السياسية للأطراف، لكنه بالتوازي مع ذلك يوصم القوى السياسية بعدم القدرة على تكوين تحالف سياسي عريض، وتمت بلورة موقفه أخيراً في ثلاثة شروط، هي أنه سيقبل بأية صيغة اتفاق سياسي يضمن تماسك البلاد، وكرامة القوات المسلحة، وتأتي بحكومة مستقلين غير حزبية.
الحرية والتغيير
الحرية والتغيير (المجلس المركزي) من ناحيته يحاول أن يعظم مكاسبه السياسية في هذه المرحلة بالربط بين توقيع الاتفاق السياسي مع القوات المسلحة وبين الإفراج عن المعتقلين السياسيين المحسوبين على ثورة ديسمبر، خصوصاً من لجنة إزالة التمكين، وهي خطوة وإن كانت مطلوبة، فإنه بالتوازي معها ولا يقل أهمية عنها هو الاستقرار على اسم لرئيس الوزراء يقود الحكومة المدنية، وأيضاً ممارسة التجرد والنزاهة من جانب كل منسوبي الحرية والتغيير في النأي عن الانخراط بالمناصب التنفيذية.
إجمالاً حال التضاغط السياسي في السودان بين مختلف الأطراف ما زالت مستمرة، وعلى رغم إمكانية استئناف العملية الانتقالية، وارتفاع مستوى التوقعات المتفائلة بشأن ذلك، لكن كالعادة لا شيء مؤكد ولا مضمون في السياسية السودانية على مدى التاريخ الحديث والمعاصر.
اماني الطويل
إندبندنت عربية