جعفر عباس

جعفر عباس يكتب: مني الحكاية ومنك مغزاها


أقوم في أحيان كثيرة بإعادة نشر حكايات سبق لي سردها أو الإشارة إليها في مقال هنا أو هناك، قبل بضعة أشهر أو سنوات، ليتسنى لي عرض وجهة نظر معينة، أو توصيل رسالة معينة، لأنني لا أريد أن ألبس مسوح الواعظ ولا أزعم أنني ممسك بالحكمة من قرونها، وأستطيع نثر الدرر، ومن ثم فإنني أميل إلى سرد حكايات من الواقع أو الخيال وأترك للقارئ أن يصل إلى ما يشاء من استنتاجات. الفأر حيوان ماكر ونشط، ولكنه كثيراً ما يضع نفسه في مواقع صعبة لأنه كثير الحركة، ويتميز بالشراهة والنهم وحب الاستطلاع، كما أنه ذو نزعات تخريبية (خذ عندك مثلا ميل الفئران لنهش الأسلاك المعدنية، فهي لا تأكل تلك الأسلاك، ولكنها تستمتع بتقطيعها، ولعلها أكثر الكائنات حزنا، لبوار سوق الهواتف الأرضية الموصلة بأسلاك) ومقابل ذلك فإنه يتمتع بحس أمني كبير، يعينه على معرفة مَوَاطن الخطر وتفاديها، ولعلمك فإنك إذا وضعت سم الفأر في موقع ما في بيتك أو مكتبك، وتناوله فأر ومات، فإن بقية الفئران لا تدخل أبدا للغرفة التي مات فيها ذلك الفأر. ذات يوم شاهد فأر صاحب المزرعة التي يعيش فيها ينزل صندوقاً صغيراً جميل الشكل، فسال لعابه، وحسب أن الصندوق يحوي شيئاً صالحاً للأكل، أو على الأقل للتقطيع (الفار يقرض الأشياء المعدنية ليس لأنه ميال للتخريب كما قلت أعلاه، بل لسنِّ أسنانه لتبقى حادة)، وتخيل مدى حزن الفأر وإحساسه بالإحباط عندما اكتشف أن ما بالصندوق مصيدة فئران، فصاح بصوت يحنن حتى قلب نتنياهو: جات الحزينة تفرح ما لقتلهاش مطرح.. ده كان مستخبي لنا فين؟… عديم البخت يلاقي العظم في الفشة (رئة البهيمة)،.. يا دي النهار الأسود والفأرة لبست أسود… حسرة على شبابك يا فرفور… يا شماتة أبله ظاظا فيك، وشماتة توم، القط المفتري عليّ أنا ابن عم جيري. ومع هذا لم يستسلم فرفور لليأس بل عمد إلى اللجوء إلى «الجماهير» لتأليبها على المزارع، وبادر بالاتصال بالدجاجة مبلغاً إياها بأن المزارع أتى بمصيدة فئران، فضحكت الدجاجة حتى دمعت عيناها وقالت: تعيش وتأكل غيرها يا فرفورتي… إيه رأيك تهاجر إلى المزرعة المجاورة، أو تأكل التبن بدل الجبن؟ أخرج الفأر لسانه للدجاجة من فرط الغيظ، وتوجه صوب الخروف ليحذره من وجود المصيدة، ولكن الخروف قال له: وأنا مالي؟ المصيدة على مقاسك يا فرفور وخلي بالك من زوزو! وكل واحد يحافظ على لغاليغو!! وما تكون حمار يا فار، وحاول الفأر استدرار عواطف الخروف وقال له: هل نسيت يوم قرضت الحبل الذي كان يقيد حركتك فانطلقت لتأكل من المزرعة ما تشاء؟ فرد عليه الخروف: نعم أذكر ذلك ولكن أتذكر أيضا كيف أن ذلك كاد أن يكون نهاية حياتي عندما ضربني المزارع!! صاح الفأر في الخروف من شدة الغيظ: أنت فعلاً حيوان، وبهيمة، ثم انطلق صوب البقرة، وحكى لها ما كان من أمر المصيدة، فصاحت البقرة: يا ناس ياهو الحقوني.. الفلاح جاب مصيدة عشان يمسكني من قروني… آآآخ منك يا ظالم… ياريت لو كنت كبيرة وضخمة زي الفأر…! هنا هتف الفأر: حتى اسم بقرة كثير عليكِ! ولم ير الفأر بُدّاً من أن ينصرف إلى التفكير في وسيلة تجنبه الوقوع في المصيدة التي كان يعرف مكانها، وجلس وهو يطنطن: إيه اللي رماني وسط البهائم هؤلاء،.. ثم سمع صراخاً عالياً، فتوجه إلى حيث المصيدة فوجدها مطبقة على ثعبان ثم رأى زوجة المزارع تندفع نحو المصيدة وهي تحسب أن الفأر راح فيها، فلدغها الثعبان واستوجب علاجها تزويدها بالسوائل، فذبح المزارع الدجاجة وصنع لها منها شوربة، وتوافد الجيران لزيارة الزوجة فذبح الخروف لإطعامهم، ولكن السم سرى في جسد المسكينة فماتت وامتلأ البيت بالمعزين، فاضطر المزارع إلى ذبح البقرة لتوفير الطعام لهم!! هل تعلمت شيئا من هذه الحكاية؟ والآن حاول – وبدون أن ترفع صوتك – أن تحدد من هو الفأر ومن هو الدجاجة.. الخروف… البقرة…

صحيفة الشرق