صلاح الدين عووضة يكتب : مجنون!
الجنون فنون..
وقمة الإبداع – والجنون – في قمة البساطة..
وكلما قل الإبداع زاد التكلف… والتصنع… والحشو… والسخف… والملل..
فالمبدع ذو الموهبة لا يتكلّف..
والتكلف – أو التصنع – ضد التبسط..
والتبسط يعني إخراج الإبداع في يسر… في سلاسة… في تلقائية..
فإن افتقر إلى ذلك لم يعد إبداعاً..
بل هو شيءٌ باعثٌ على الملل… وإن مل الإنسان شيئاً لم يستمتع به..
وكتاب الله كله بساطة – وتبسيط – في قمة الروعة..
وفيما يلينا نحن البشر درج إيليا أبو ماضي على أن يبسط في مجال الشعر..
وكذلك أنيس منصور في مجال الصحافة..
وسارتر في مجال الفلسفة..
والطيب صالح في مجال الرواية..
وأوبرا وينفري في مجال البرامج التلفزيونية..
وستيفن سبيلبيرج في مجال الإخراج السينمائي..
ومحمد سعيد دفع الله في مجال النظم الغنائي..
ومحمد سعيد هذا مبدع حَد الجنون..
هو يُنظِّم الشعر كما يسري نسيم السحر في جروف الشمال؛ فيجرف معه أريجها..
وكما تنساب مياه النيل عند شواطئ أرض بني شائق..
وكما يصدح الكُرج على أغصان (شتيلة قريرا)..
فهو من القرير؛ التي أنجبت الدابي… واليمني… والسقيد… والسر عثمان الطيب..
وفي إحدى روائعه يقول:
قوللن ليه الليل ده طــويل طــولاً يجـنن
لا قمراً ظهر في سماه لا نجمات يضوِّن
ويبدو أن الليل قد تسبب في (جنون) إبداعه بالفعل..
وجرير – صاحب البساطة الإبداعية – قيل إنه كان له جِنيٌّ..
وقد أنقذه ليلةً حين عجز عن اجتراح مطلع قصيدة له… رداً على الراعي الشاعر..
فكان المطلع الذي أسعفه به:
أقلِّي اللـوم عــاذل والعـــتابا
وقولي إن أصبت لقد أصابا
إلى أن يضرب ضربته الموجعة للراعي هذا – وقبيلته كلها – فيقول:
فغض الطرف إنك من نمير
فلا كـــعباً بلـغت ولا كلابا
فالجنون قد تكون له صلة بعالم (المُبدعين) من الجن..
من الذين كانوا يعملون لنبي الله سليمان ما يشاء..
يعملون له محاريب… وتماثيل… وجفان كالجواب… وقدور راسيات..
أما غير المبدعين منهم فيقولون مثل قول أحدهم:
وقبر حــرب بمــكان قــفر
وليس قرب قبر حرب قبر
فقد زعمت العرب أن قائله من الجن..
فالمبدعون من شعرائهم لا يقولون مثل الشعر عسير الهضم هذا..
أي الذي يخلو من السلاسة… والبساطة… والإبداع..
أو هو شيء مشابه للذي يتغنّى به بعض مطربي زماننا هذا..
أو الذي يكتبه بعض كُتَّاب صحافتنا اليوم..
أو الذي ينطقه بعض مذيعي إذاعاتنا… وتلفزيوناتنا..
وشيطان الشعر حين يفتقر إلى الإبداع يكون (شيطان كوشة)..
أما شيطان محمد سعيد فإنه من (وادي عبقر)..
ثم أتى تلك المنطقة من (وادي النيل)..
واستطيب الإقامة هناك؛ حيث (الطيف) نفسه يُستنطق..
ألست أنت القائل يا (ود) دفع الله:
هي قليل يا طيف أقيف وارجاني
وين فايتني عابر
وانا شن حارس وراك أنا تاني
ياني معاك مسافر
يا أخي: أنت لست مبدعاً..
أنت مجنون!.
صحيفة الصيحة