منى ابوزيد

منى أبو زيد تكتب : في زراعة الأخـــلاق..!


“المُحرِّرون لا وُجود لهم، الشعوب وَحْدَها هي التي تُحرِّر نَفْسَها”.. تشي جيفارا..!

هذه الثورة ليست عصا موسى التي شقَّت مستنقعات الفساد في هذا البلد وعبَّدت لمواطنيه طريقاً للأخلاق الحميدة، يسير أصحاب النفوذ والسلطة فيه – على صراطٍ مستقيم – بعد أن يضبطوا أخلاقهم المهنية على إيقاع اللحن الثوري الجديد. فيصبحون أُناساً آخرين، بمُواصفاتٍ ثورية، وقِيم ومُثل ومَبادئ ومِثاليات هَبطَتْ عليهم من السماء، هكذا، دفعةً واحدة، وعلى حين غِرَّة، فقط لأن الله شاء أن تندلع ثورة تقتلع حكومة الإنقاذ..!
ماذا عن إرث الإنقاذ السياسي والاجتماعي والأخلاقي، وماذا عن إرث من قبلها وما قبل الذين كانوا قبلها، ماذا عن تعريف الفساد المهني بمعناه الأخلاقي؟. كل الذي تستطيع أن تفعله الثورة – أي ثورة – هو أن تُغيِّر شكل الحكم، وأن تُبدِّل أنماط الحاكمين. أما التغيير الجذري والحقيقي، التغيير المُفاجئ المُباغت الذي يُمسك بأكتاف المُجتمعات ويَهُزها هزاً – حتى تتساقط مظاهر الظلم والابتزاز والرشوة والفساد، ليمنحها بُعداً أخلاقياً جديداً وزاخراً – فمكانه خيال الشعراء والمُؤلِّفين وأحلام الحالمين..!
الثورة دورها أن تهدم أركان الظلم وأن تدُك عروشه دَكّاً، وبذلك تكون قد أدَّت دورها السياسي في سياقه التاريخي. أمّا البناء الاجتماعي فبطيء ويتطلب جهداً متواتراً، وإرادةً سياسية، وحماسةً شعبيةً، ومُمسكاتٍ قومية، ومشاريعَ أخلاقية وطنية. محاربة الفساد أمر جَللٌ يتجاوز مقدرات أي حكومة انتقالية وتقصُر عنه إمكانات أي لجنة إزالة تمكين لا تضعان المذكور أعلاه نصب أعينهما..!
ماذا تنتظرون من صاحب سلطةٍ أو نفوذ ينتمي إلى مجتمع كان يُصدر بعض الفقهاء فيه فتاوى بجواز منح الرشوة – في حال تعسر سير المعاملات الحكومية – فيقولون للسائل “ادفع مُكرهاً لا بطلاً والذنب على المرتشي”؟. هل سيتلاشى مثل هذا الفساد في لمح البصر فقط لأن ثورةً قد اندلعت فأطاحت بحكم الإنقاذ؟. وهل كل الفَاسدين والمُرتشين – الذين يُضيِّقون الخِناق على خلق الله في شتَّى المرافق والمصالح – يحملون بطاقات عضوية حزب المؤتمر الوطني؟. وهل كل أصحاب النفوذ والمناصب في عهد هذه الحكومة الانتقالية هُم شرفاء بالضرورة ومُنزَّهون عن الفساد؟. كلّا بالطبع..!
إذن، علينا أن نسأل أنفسنا أين نحن وأين هذا المُجتمع من القيم والأخلاقيات التي تَعصِمُنا وتَعصِمُه من مُمارسة الفساد؟. أقول بهذا لأنّني أتأمّل في عِلَل وإشكالات سُلوكنا الجمعي – في هذا البلد – صباح مساء. لكنني وعلى الرغم من كُلِّ ذلك لن أيأسَ قَط، لأنّني أؤمن جداً بمشاريع زراعة الأخلاق..!
ولأنّني أؤمن – أيضاً – بأنّه يُمكن لزعاماتنا الفكرية والثقافية والاجتماعية أن تضع خُططاً استراتيجية لتجويد مُمسكاتنا القومية، وأن تقود حملاتٍ توعوية لتحسين أخلاقياتنا الوطنية. ولأنّني أؤمن – قبل ذلك كُلِّه – بجَودة قُمَاشة الإنسان في هذا السودان، حتى وإن أفسدتها حياكة الفقر الاقتصادي أو شوّهتها خياطة العجز السياسي في هذا الزمن الرديء، سوف أظل أؤمن دوماً بإمكانية إعادة رَتْقِها في ثوبٍ أخلاقيٍ جميلٍ وقَشيب..!

صحيفة الصيحة