تحقيقات وتقارير

“الكتلة الديمقراطية السودانية” وسردية الجدل العدمي

“الكتلة الديمقراطية السودانية” وسردية الجدل العدمي
تسعى بعض الجهات إلى الحفاظ على مواقعها ضمن أي اتفاق على سلطة مقبلة

يرجَّح أن توقيع المكون العسكري على الاتفاق الإطاري أربك حسابات تحالف “الكتلة الديمقراطية” (أ ف ب)

يطفو اليوم على سطح الساحة السياسية السودانية نقاش وجدل حول الموقف من الاتفاق الإطاري “الذي تم التوقيع عليه في الخامس من ديسمبر (كانون الأول) الماضي بين العسكر وقوى سياسة مدنية” بين بعض الفرقاء السياسيين، من قبيل موقف تحالف “الكتلة الديمقراطية”، ما يطرح كثيراً من التساؤلات والتخوفات، لا عن الطبيعة النسقية العقيمة لذلك الجدل، بل عما يمكن أن تؤدي إليه تلك المواقف العدمية والنهايات التي سترسو عليها؟

الكتلة الديمقراطية

“الكتلة الديمقراطية” تحالف حزبي سوداني، صير إلى إعادة تكوينه مرة أخرى بعد أن كان اسمه “الحرية والتغيير التوافق الوطني”، إثر انشقاقه من تحالف “قوى الحرية والتغيير” في 15 سبتمبر (أيلول) 2021. وهو تحالف مكون من حركات مسلحة وأحزاب عدة، على رأسها حركة “جيش تحرير السودان” بقيادة مني مناوي، الحاكم الحالي لإقليم دارفور، وحركة “العدل والمساواة” بقيادة جبريل إبراهيم وزير المالية الحالي. وعين قادة تحالف “الكتلة الديمقراطية”، جعفر محمد عثمان الميرغني (ابن السيد محمد عثمان الميرغني راعي الطائفة الختمية في السودان ورئيس الحزب الاتحادي الديمقراطي) رئيساً للكتلة الديمقراطية، فيما عينوا الناظر سيد محمد الأمين ترك (ناظر قبيلة الهدندوة بشرق السودان ورئيس أحد قسمي المجلس الأعلى لنظارات البجا بشرق السودان) نائباً لرئيس الكتلة.
تحالف “الكتلة الديمقراطية” هذا، حين انشق عن تحالف “الحرية والتغيير” في 15 سبتمبر 2021- قبل شهر واحد من انقلاب 25 أكتوبر (تشرين الأول)- وسمى نفسه آنذاك “الحرية والتغيير – التوافق الوطني”، كان قد طالب بعد انشقاقه بحل الحكومة الانتقالية بقيادة عبدالله حمدوك التي كان مشاركاً فيها بحسب بنود اتفاق جوبا الموقع في أكتوبر 2020، رغم أن تحالف “قوى الحرية” الموحد، الحاضنة السياسية لحكومة حمدوك، كان قد قبل بعد توقيع اتفاق جوبا بحذف كلمة “مستقلة” من عبارة “كفاءات وطنية مستقلة” من نص الوثيقة الدستورية استجابة لرغبة الحركات والأحزاب الموقعة على اتفاق جوبا، بالمشاركة في الحكومة الانتقالية مشاركة سياسية، لا عبر كفاءات مستقلة، ومع كل تلك المشاركة الوازنة في حكومة حمدوك الانتقالية، طالب “تحالف الحرية والتغيير – التوافق الوطني” بحل حكومة حمدوك الانتقالية ونظموا اعتصامات من أجل ذلك قرب القصر الجمهوري، من دون اعتراض من العسكر، فيما كانت تظاهرات الثوار الرافضة لإقالة حكومة حمدوك الانتقالية، تتجدد باستمرار حتى إذا بلغ عدد متظاهري الثورة الرافضين لإقالة حكومة حمدوك الانتقالية في تظاهرة 21 أكتوبر 2021 مئات الآلاف، بحسب وكالة “رويترز”، وشكل ذلك إيذاناً بفشل المكون العسكري وحلفائه بالتأثير في الشعب من أجل حل حكومة حمدوك الانتقالية، الأمر الذي دفع المكون العسكري في السلطة إلى انقلاب 25 أكتوبر 2021 أي بعد أربعة أيام فقط من تظاهرات 21 أكتوبر الحاشدة.

موقف عجيب

وحين نتأمل اليوم مواقف “الكتلة الديمقراطية”، بعد عام على انقلاب العسكر، وبقاء قادة الكتلة حتى اليوم في مناصبهم في السلطة الانقلابية الحاكمة، لن نستغرب طبيعة الحجج الواهية التي يبررون بها امتناعهم عن التوقيع على “الاتفاق الإطاري”، إذ إن هناك مادة من مواده تنص على أن تكون سلطة الحكومة الانتقالية المقبلة مكونة من كفاءات وطنية مستقلة، لأنهم يريدون مشاركة سياسية بالسلطة تبقيهم في مناصبهم.

لكن هذه المرة وجد “الاتفاق الإطاري” المبني على مواد الدستور الانتقالي للجنة التسييرية لنقابة المحامين السودانيين، قبولاً واسعاً من المجتمع الدولي ممثلاً بـ”الآلية الرباعية حول السودان” (تضم الولايات المتحدة، وبريطانيا، والسعودية، والإمارات) و”الآلية الثلاثية للوساطة في السودان” (تضم البعثة السياسية المتكاملة للسودان يونتاميس، والاتحاد الأفريقي، ومنظمة “إيغاد” الممثلة لدول وسط وشرق أفريقيا) إلى جانب “الترويكا الدولية” (تضم بريطانيا والنرويج والولايات المتحدة) إضافة إلى الاتحاد الأوروبي.

تحولات في المشهد الدولي

ويتوقع أن توقيع المكون العسكري على الاتفاق الإطاري (بعد فشله في تسيير سلطة تنفيذية، بمرور سنة كاملة من الانقلاب، عجز خلالها عن تعيين رئيس وزراء يرضي الشعب والمجتمع الدولي، الأمر الذي اضطر قائد الانقلاب، الفريق عبدالفتاح البرهان إلى إعلان نية انسحاب الجيش من إدارة السلطة السياسية للبلاد، في بيان متلفز للشعب السوداني يوم الرابع من يوليو (تموز) 2022 وموافقة قائد قوات الدعم السريع، محمد حمدان دقلو “حميدتي” له) هذا الخيار المفاجئ للعسكر هو الذي أربك حسابات تحالف “الكتلة الديمقراطية”، فقد كان الحدث كبيراً وينبئ بمشهد جديد حيال خيارات صعبة اضطر إليها العسكر تحت ضغط مجتمع دولي أراد ترتيب الوضع السياسي السوداني بعد معطيات وحسابات جيوستراتيجبة كثيرة، منها تداعيات حرب روسيا في أوكرانيا وانعكاساتها على التنافس الجيوسياسي الشرس بين أميركا وروسيا على أفريقيا، وموقع السودان الاستراتيجي فيها، ومنها كذلك ما أثبته الشعب السوداني– الذي ظل يخرج في تظاهرات بالآلاف طوال عام كامل غير عابئ بقانون الطوارئ الذي أعلنه الانقلابيون في 25 أكتوبر 2021– حيث أثبت هذا الشعب للمجتمع الدولي حرصه على الديمقراطية والدولة المدنية، مضحياً في ذلك بأكثر من 120 شخصاً ممن فقدوا أرواحهم في التظاهرات طوال أكثر من عام.

هكذا وجد تحالف “الكتلة الديمقراطية” نفسه أمام تناقضات عجيبة يمكن رصد تهافتها في الحجج التي ظل يغالط بها لإثبات مواقف لم تعد اليوم تنطلي على الشعب السوداني فإذا كان الاتفاق الإطاري هو ثمرة الجهود الجبارة التي بذلتها الآلية الثلاثية في الدعوة إلى حوار سياسي بين العسكر والمدنيين (بعد انفتاح المجال السياسي إثر إعلان العسكر نية انسحابهم من السلطة) وبرعاية من القوى الدولية والإقليمية، فما الذي يمنع تحالف الكتلة الديمقراطية من التوقيع؟
ونسبة لأن “اتفاق جوبا” ملزم وكان جزءاً من الوثيقة الدستورية، فإن الأطراف السياسية الموقعة على “الاتفاق الإطاري”، حرصت على ترك الباب موارباً لتوقيع قوى محددة في “الكتلة الديمقراطية” (حركتي جبريل ومناوي) عليه في أي وقت، لكن للأسف طبيعة نقاش رموز “الكتلة الديمقراطية” التي لمحنا إليها في بداية المقال وحججهم الواهية في رفض الاتفاق الإطاري، تقوم على دعوى أنه ليس من حق القوى السياسية الموقعة على الاتفاق إقصاؤهم لأنهم قوى سياسية سودانية ومن حقهم أن يشاركوا في السلطة المقبلة، وأن “قوى الحرية والتغيير- المركزي” غير مفوضة من الشعب لكي تحتكر حق منع مشاركة الكتلة الديمقراطية– عدا حركتي جبريل ومناوي- من استحقاق المشاركة في السلطة المقبلة (مع أنه ليس هناك من وقع في الاتفاق الإطاري باسم تحالف قوى الحرية والتغيير القديم، وإنما وقع كل حزب على الاتفاق الإطاري بصفته الفردية) وينسى هؤلاء المحتجون من رموز “الكتلة الديمقراطية” أنهم هم الذين أطالوا عمر الانقلاب لأكثر من عام بالبقاء في مناصبهم داخل السلطة الانقلابية حتى الآن، كما صمتوا ولم يدينوا قتل المتظاهرين سلماً في الشوارع على مدى عام كامل حتى راح أكثر من 120 شاباً وشابة من خيرة أبناء الشعب السوداني ضحايا في سبيل الوصول إلى هذا الاتفاق الإطاري؟ كما تنسى قيادات “الكتلة الديمقراطية” في استنكارهم هذا أن تحالف “قوى الحرية والتغيير” فوضه الشعب غداة سقوط الرئيس السابق عمر البشير، تفويضاً سياسياً لا انتخابياً، وأنهم كـ”كتلة ديمقراطية” هم من انشق عن “قوى الحرية والتغيير” يوم 15 سبتمبر 2021 وأعلنوا ما سمي آنذاك “قوى الحرية والتغيير– التوافق الوطني”، وشجع انشقاقهم المكون العسكري على إعلان الانقلاب المشؤوم الذي أدخل البلاد في المأزق الذي تعانيه اليوم على حافة الهاوية، حتى أقر العسكر أخيراً بتسليم الحكم للمدنيين بعد أن عجزوا على مدى عام كامل من التظاهرات الثورية والضغوط الدولية.

رغبات سلطوية

سنجد كيفما قلبنا أوجه حجج قادة “الكتلة الديمقراطية” في موقفهم من “الاتفاق الإطاري”، أن الأمر لا يتعلق بالالتزام بقيم ومبادئ الثورة التي هي بمثابة البوصلة الواضحة لحكم الشعب وتقويمه لمواقف القوى السياسية في هذه اللحظة الحرجة من مصير للسودان، كما لا يعكس موقف قادة “الكتلة الديمقراطية” حرصاً على الوحدة الوطنية لإنقاذ وطن مشرف على الفوضى والحرب الأهلية– بحال لم يتفق فرقاؤه السياسيون على حد أدنى من الوحدة الوطنية – ناهيك بوعيد بعض قادة “الكتلة الديمقراطية”، لا سيما مني مناوي الذي صرح للإعلام بأن توقيع تنفيذ الاتفاق النهائي سيكون “على جثثنا”. ونحن نعرف الطريقة الفوضوية التي كان يعارض من خلالها النائب الحالي لرئيس “الكتلة الديمقراطية” الناظر محمد الأمين ترك، حين أغلق موانئ شرق السودان والطريق القومي الواصل بين الشرق والخرطوم لأكثر من 48 يوماً قبل الانقلاب، فتسبب ذلك بكوارث اقتصادية لم تتعاف منها الموانئ السودانية ولا الاقتصاد السوداني حتى اليوم.
يدرك قادة “الكتلة الديمقراطية” أن ثقة المجتمع الدولي في القوى السياسية الموقعة على الاتفاق الإطاري نابعة في الأصل من مواقف تلك القوى في رفضها للانقلاب وإدانته، كما يدركون أن المجتمع الدولي والإقليمي هو الجهة التي يمكن أن تنتشل السودان من الوضع المعيشي الكارثي الذي وقع فيه بسبب الانقلاب وبسبب بقائهم مع الانقلابيين في السلطة مما أدى إلى قطع المساعدات والدعم الاقتصادي الكبير الذي كان قد منح للسودان قبل الانقلاب، بما في ذلك إعفاء البلاد من الديون، والوعد باستثمارات ومساعدات اقتصادية مجزية تكون سبباً لتعاون وشراكة السودان بموارده الغنية مع المجتمع الدولي. مع ذلك كله، يصر تحالف “الكتلة الديمقراطية” المشاركة في الحكومة المدنية المقبلة بنصيب وافر، فيما يريد العسكر أنفسهم الخروج من العملية السياسية عقب فشل انقلابهم وكأن فهم قادة الكتلة الديمقراطية لخدمة الوطن يكمن في عقلية حيازة السلطة فقط، من دون أي رؤى أخرى، كأن يكونون في خانة معارضة سلمية وحضارية للاتفاق الإطاري.
كل ما نأمله، أن تكلل الجهود الدولية والإقليمية الساعية لإنجاح الاتفاق الإطاري، وتلعب دوراً في إقناع حركتي مناوي وجبريل بتوقيعه، نظراً إلى الالتزام الدستوري ببنود اتفاق جوبا، وأن تهتدي بقية أحزاب وحركات تحالف “الكتلة الديمقراطية” إلى أن يكونوا ديمقراطيين بحق، ويصطفوا جميعاً لتكوين معارضة سياسية سلمية للحكومة المقبلة.

محمد جميل احمد
إندبندنت عربية