حيدر المكاشفي

حيدر المكاشفي يكتب: عنتريات ما قتلت ذبابة!!


كم كان الشاعر العظيم نزار قباني على حق عندما قال
إذا خسرنا الحرب، لا غرابة
لأننا ندخلها
بكل ما يملكه الشرقي من مواهب الخطابة
بالعنتريات التي ما قتلت ذبابة
السر في مأساتنا
صراخنا أضخم من أصواتنا
وسيفنا..
أطول من قاماتنا..
يوجعني أن أسمع الأنباء في الصباح
يوجعني..
أن أسمع النباح.

ومن حكايات العنتريات تقول حكاية سابقة، إن الرئيس الجزائري السابق محمد بوضياف، سمع ذات يوم ضجيجا في الشارع، وعندما سأل عن سبب الهتافات، أخبروه أنها حشود من المتظاهرين تطالب بتحرير فلسطين، فتفاعل بطريقته الخاصة مع الحدث، إذ أمر رئيس الأركان بتوفير شاحنات عسكرية للمتظاهرين، مع الادعاء بوضعها رهن إشارتهم من أجل الانتقال إلى فلسطين، فكانت المفاجأة هروب أغلبهم نحو بيوتهم، في بضع دقائق..
ومن أشعار نزار قباني مرورا بالحكاية الجزائرية والى يوم العرب والمسلمين هذا، بل الى يوم يبعثون سيظل الحال هو ذاته كلما طرأ أمر يعيد ذكرى القضية الفلسطينية، تخرج الجموع الى الشوارع مطلقة الهتافات ورافعة للشعارات، ثم ينتهي الأمر بانفضاض الحشد، بعد ان تشحن نفوس العامة بالخطب الرنانة والعبارات الرصاصية الهادرة والبيانات الانفجارية، فرغم عدالة القضية الفلسطينية، ورغم كل هذه (الهلمة والهيلمانة) الصوتية الحلقومية والشعارات القماشية والبيانات الورقية، ورغم تقديم الفلسطينيون آلاف الشهداء ولا يزالون يقدمون الشهيد تلو الشهيد دون جدوى، لاتزال القضية تراوح مكانها، فهل في الأمر سر..

نعم في الأمر سر، ذلك أن القضايا لا تنصر فقط بالهتافات والبيانات والمسيرات فتلك أضعف الايمان، وللأسف ذلك ما اعتدناه لنصرة القضية، نزعق ونصرخ بأعلى اصواتنا، ونستخدم عبارات تهز الجبال، والحقيقة تقول البراميل الفارغة تحدث ضجيجا عاليا، وكذا أصحاب الأصوات العالية قلما يـقدمون على أفعال فهم أضعف وأعجز من أن يترجموا انفعالهم الى افعال، فمنذ عقود ومنذ ان تفجرت القضية الفلسطينية لم نتجاوز مرحلة الرفض والممانعة واطلاق التصريحات العنيفة والتهديدات الصاخبة..

هناك مثل إنجليزي شهير يقول (احمل عصا غليظة وتكلم بلطف)، فنحن غالبا ما نتحدث بأصوات عالية للغاية، بينما لو نظرنا إلى الطريقة التي يتكلم بها الأمريكيون والأوروبيون على شاشات التلفزيون، والإذاعات، والمناسبات العامة، لوجدناها غاية في اللطف، والرقة، والتحضر، والهدوء، فقلما تشاهد وتسمع زعيما، أو مسؤولا أمريكيا، أو أوروبيا يتحدث بصوت عالٍ، أو لهجة حادة، أو عبارات هادرة، فمن عادة الغربيين أن يتحدثوا بنبرة خافتة وصوت هادئ جدا، مما يجعلك تـشفق عليهم لشدة وداعتهم ولطفهم، واللافت في الأمر أن المسؤول الغربي يطلق أخطر التصريحات والتهديدات بلهجة خافتة جدا، بحيث يصعب عليك، أن نتبين ما إذا كان ذلك المسؤول يهدد فعلا، أو يتوعد، أو سيحرق الأرض تحت أرجلنا، فهم يقولون أعنف الأشياء، وأكثرها صرامة، ببرودة شديدة، بحيث قد لا تأخذه على محمل الجد، أو قد لا تصدق أنه غاضب، أو منفعل، إلا ما ندر، بينما نحن كما قال نزار قباني أصحاب العنتريات التي ما قتلت ذبابة..

صحيفة الجريدة