الطاهر ساتي يكتب: الشوق غلب
عذرا على الغياب، فالفقد كان وسيظل مؤلماً، وإنا لله وإنا إليه راجعون، ونسأله جلّ وعلا شأنه أجر الصابرين.. وقبل عقد من الزمان، احتفلنا بعيد الأم، وكتبت بعض مشاهد حياة ست الحبايب.. ومنه، حين يبلغ بنا الحرمان مآلاً قاسياً، كانت الغالية تذهب بدجاجها وحمامها إلى سوق القرية، ثم تأتينا آخر النهار بكل ما لذّ وطاب إذا وجدت لدواجنها شارياً، أو بما تيسّر ثم النصح بالصبر والشكر، ونكون على ذلك من الشاكرين الصابرين..!!
:: وفي الشتاء، كانت ست الحبايب تحمل فأسها وعزيمتها وتحتطب (فروع النيم) و(جريد النخل)، فتسد بها فجوات عرش بيت الطين، فتقينا من زمهرير الليالي الشاتية، ونتدفأ بحبها قبل عملها.. وفي تلك السنوات المتعبات، حين تتراكم سحب الخريف فوق بعضها وتنذر بالمطر، كانت الغالية تحمل جوالها، وتجمع روث البهائم، لتوفر للجدار المتآكل سطحاً من (الزبالة)، لتقيه من التآكل والتلاشي والتساقط، ونطمئن بين الجدران..!!
:: وكانت ترسم لنا خطى الطريق القويم في فيافي الحياة.. وكانت تحملنا المعاول، وتقودنا إلى الجروف، لنزرع الخيرات على الشواطئ، فيقتات منها الناس والأنعام، أو ترسلنا إلى مقاول القرية و(أسطتها) ونتصبب عرقاً حين نناوله بسواعدنا النحيلة الطوب و(أقداح المونة) تحت وهج الشمس ولظاها، ونرجع إليها مع المغيرب بأجر (اليومية)، فنجدها أعدت لنا شاي المغرب و(الإبريق) و(برش الصلاة) والدعوات الطيبات..!!
:: وذات يوم، في العام 1985، يرن جرس الإفطار بالمدرسة الوسطى، وأهرول جائعاً إلى السوق، حيث الغالية تبيع بعض دواجنها، ولم تكن قد باعت، فأرجع لأكمل الحصص جائعاً، وإذ بناظرنا يدخل علينا قبل انتهاء الحصة الرابعة، ويأمرني بمقابلته في مكتبه، فأتوجس وأسأل عن الخطأ الذي ارتكبته، وأدخل مكتبه، وإذ بالغالية تجلس وبيمناها أرغفة وكيس طعمية، وبيسراها مجلة ماجد وكراسات قصدت بها تحويل جوعي وحزني إلى شبع وفرح..!!
:: ومع الفجر، كانت تأتي ست الحبايب بـ(شاييها وزلابيتها)، لنزين وجه النهار بالأنس الجميل، ومن حولها شغب أحفادها يعطر المكان، ونتساوى مع أطفالنا – في حضرة الغالية – حتى تشرق الشمس، ثم نودعها بقبلات على رأسها، ونخرج للعمل، ونكون قد تدثرنا بصالح الدعاء: (ربنا يحفظكم، ويعدلها عليكم دنيا وآخرة)، كخير دثار، وقد غاب هذا الدثار، وما أغلاه.. ربي أرحمهما كما ربياني صغيراً، ونسألك برهما والصبر على فراقهما، ثم أجر الصابرين..!!
صحيفة اليوم التالي