منى ابوزيد

منى أبوزيد تكتب : الالتزام بالتعليمات..!

“الفلسفة أعمق من الأدب لأنّها تدرك أنّ الأدب أعمق منها”.. غوتة..!
أحياناً نقلِّب مخادعنا رأساً على عقب، نرفع الشراشف، نبعثر الوسائد، نكاد ننقض غزل الأغطية بحثاً عن إجابة كُبرى لسؤال عظيم، ثم لا نلبث أن نجد الإجابة السهلة، الممتنعة، ملقاة ــ منذ الأزل ــ على قارعة الطريق..!
ــ أهم شيء هو الالتزام بالتعليمات..!
أدهشني جداً إصرار السائق على تكرار ذات الجملة برتابة العساكر، كلما ارتقينا جسراً أو هبطنا طريقاً. بقيتُ أرقبه في فضول، تأملتُ اشتعال حواسه المذعورة بما يشبه التحفز، قبضتي تحت ذقني، وأنفي مشرئب، وكأنني استشرف بكائية ما ساحتها خيالي..!
بقي سائق البص يثرثر عبر الهاتف وعلى الجانب الآخر أنثى شريرة عبرت رائحة فضولها إلى أنوف الركاب. كُنَّا ثلاثة رجال وامرأة، جمعتنا صدفة سفر من رياض السعودية إلى خرطوم السودان عبر منامة البحرين. منحرفو المزاج كدأب مسافري الترانزيت، جالسون بنصف انتباه، نعلل أنفسنا بسلامة الوصول بعد يوم وليلة من السكوت بين جدران غرف الفنادق الخرساء. وهكذا نزل ذاك الحوار الهاتفي على صمتنا كما زخَّات المطر، بل أشعرتنا أجواء المؤامرة – التي كانت تفترش طريقنا إلى المطار – بقداسة شهادتنا المتواترة على وقوع جريمة كاملة..!
السائق، الرجل، “الفاعل الأصيل” يتصبّب عرقاً رغم اعتدال التكييف، يخلع بدلته ويحرر قميصه من قبضة بعض الأزرار وهو يصيح بهلع محذراً صديقته الهاتفية من مغبة التهاون في شأن التعليمات، مؤكداً على أن الأمور سوف تسير على خير ما يرام إذا ما هُنَّ ــ هي وأخريات ــ التزمن بأداء أدوارهن الاحتفالية حسب الخطة. أما هو ــ العريس السري ــ فسوف يقوم بتوزيع بطاقات الدعوة على القريبات المتواطئات، شريطة أن تتعمّد كل واحدة منهن إصابة ذاكرتها بالعطب أمام الغرباء ــ خاصّةً أم العيال ــ بعد حضور حفل زواجه الثاني..!
اكتملتْ فصول الحكاية قبيل وصولنا إلى المطار، وعاد الصمت يُخيِّم على الأجواء وإن تبدّلت أسبابه نوعاً. ربما كان الرجال يفكرون في شجاعة ابن جنسهم الذي استطاع أن “يفعلها”، يُقيِّمون فداحة الخطوة ويبذلون له الأعذار والأسباب، بينما كنتُ أفكِّر بتطابق طينة الرجال الجُبناء كيفما تباينت الملل والسحن..!
يبقى الرجل الضعيف طفلاً أخرق لا يرى أبعد من أرنبة أنفه عندما يتعلّق الأمر بخيار تعريفه أنثى، وإلا فهل يُعقل أن يسجن عاقل شجاعته في قفص السرية ويحيا نهباً للأكاذيب، خوفاً من غضبة امرأة؟. بعض وقفاتنا نحن معشر النساء أكثر نبلاً وشجاعة من موقف رجل خائف، ربما لذلك خلقنا الله لا نقبل القسمة على اثنين، ولكننا قد نقبل أن نتقاسم رجلاً..!
على طريقة أبناء البلد الطيبين الذين اعتادوا إطلاق سراح فضولهم في وجوه رفقاء الصدفة وجيران المواصلات، هتف أكبر الرجال الثلاثة سناً وأقلهم حذراً ــ وهو يقفز من البص ــ مخاطباً السائق العريس “ألف مبروك”..!
أما عنِّي، فقد كنت أفكر بشيء من الأسى في تفاقم “أزَمَاتْ الرَّجَالَة” العابرة للقارات، وأنا أشيع رجلاً مذعوراً من غضبة امرأة غيور ــ إلى مثواه الغائم ــ بنظرة إشفاق أخيرة..!

صحيفة الانتباهة