جعفر عباس

جعفر عباس يكتب: الفعل الماضي قد يكون ناقصاً


يغيظني كثيرا أننا نربط الماضي القريب والبعيد بكل ما هو جميل مقارنة بالحاضر، مع أننا نعرف ان فعل الماضي قد يكون ناقصا بينما الفعل المضارع حاضر ومستمر، واستعيد هنا ​حكايتي مع صاحبي الذي قلت له إنني ومنذ أن نصحني الأطباء بتناول أدوية ارتفاع ضغط الدم، لم أفوت جرعة، بل ربما اعمل بحكم سجود السهو، واتناول قرصا إضافيا إذا تشككت في أمر تناولي الجرعة الدوائية في موعدها، أتعرفون ماذا قال لي صاحبي؟ أنت جبان، تخاف من المرض!! وليته اكتفى بتلك التهمة، تمادى وشرح لي كيف أن «كثرة» الأدوية ضارة بالصحة، وأنه لا يعقل أن يستمر شخص في تناول أدوية الضغط والسكري أو القلب مدى الحياة!! قلت له إن الناس يتناولون الأدوية لجعل مدى الحياة طويلاً بعض الشيء، فكان جوابه إعادة الموال المعتاد عن جده الذي كان يأكل خروفاً كاملاً بمفرده، ويشرب كوباً من السمن (الزبدة) كل صباح، وعاش عمراً طويلاً دون يذهب إلى الطبيب مرة واحدة

(يحلو لجيل الآباء والأجداد أن يحدثوا الأحفاد عن زمن جميل مُتَوهّم، كان فيه سعر الخروف في مثل سعر الدجاجة اليوم، ولكنهم لا يذكرون لهم أن حظهم من لحم الضأن لم يكن يزيد على 3 كيلو غرامات في السنة، وأن الدريهمات التي كانت تكفي لشراء خروف قبل خمسين سنة، أعلى من حيث القيمة من سعر عجل هولندي على أيامنا هذه)

قلت له إنني أعرف شخصاً ظل يشرب ويدخن وعاش أكثر من سبعين سنة، ولكن هذا لا يعني أن طول العمر عنده يعزى إلى أن التدخين والمنكرات مفيدتان للصحة!! وسردت عليه مشهداً في التلفزيون الأردني في سياق حملة لمكافحة التدخين، حين كانت كاميراته تجول في الشوارع في بث حي، وعثر المذيع على كنز ثمين: رجل فوق الثمانين لم يمارس التدخين قط وبعد التي واللتيا، قال له المذيع: من المؤكد أن احتفاظك بصحة طيبة في هذا العمر يعود إلى عدم ممارستك للتدخين، فما كان من الرجل إلا أن قال: أخي الكبير عمره 95 سنة ومازال أقوى مني بنية وهو يدخن ثلاثين سيجارة يوميا منذ 80 سنة!!

حاولت أن أشرح لصاحبي أن القاعدة هي أن من يهتم بصحته يعيش أطول لأنه أخذ بالأسباب، وأن الاستثناء هو أن أشخاصاً مثل جده الذي كان يشرب الكولسترول المصفى، وأن بعض مدمني المسكرات والسجائر عاشوا طويلاً رغم أن «سلوكهم» كان مجافياً لمقتضيات الصحة الطيبة! مفيش فايدة، ويبدو أنني زدت الطين بلة بأن قلت لصاحبي إن ضغط الدم عندي تحت السيطرة بفضل تجنب الملح الكثير في الطعام، وكل ما يؤدي إلى ارتفاع ضغط الدم، فقد تأكد للرجل أنني فعلاً جبان ورعديد، وحدثني عن فوائد الجبن والملح والفسيخ بالبصل ( لعلم أهل الخليج: الفسيخ يتألف من ملح مضاف إليه سمك صغير الحجم، وإذا تناولت لقمة واحدة من الفسيخ فإنك تكون قد تناولت حصتك من الملح لمدة 235 يوماً، وهو ابن عام المهياوة بالرضاع. واسألوا عواجيزكم عن المهياوة)! إنه منطق «أسأل مجرب ولا تسأل طبيب»، الذي يفتقر إلى «المنطق»!! فكل من تلاقيه يريد منك أن تجعل فلاناً مثلك الأعلى في الشؤون الصحية، والقاسم المشترك بين هؤلاء «الفلانات» هو أنهم لم يكونوا يذهبون إلى الأطباء عندما يمرضون!! ومن الطبيعي أن الشخص المطلوب منه تعاطي عقار طبي معين طوال حياته يشعر بالسأم، وقد يهمل أمر الانتظام في العلاج لبعض الوقت، ولكن ما قولك فيمن يكون مصاباً بمرض في القلب، ويقدم له أفراد عائلته قرص الدواء المقرر، فيضعه تحت لسانه ليبصقه لاحقاً، وماذا تقول في الذي يتعاطى دواء من النوع المصنف كـ «مُنقذ للحياة»، فيتناول جرعة الأسبوع الواحد في أسبوعين من باب ترشيد الإنفاق، ويبرر ذلك بأن الدواء «غالي».

صحيفة الشرق