مهن ومحن (36)
عندما نقول في السودان عن شيء ما أنه «خشم بيوت»، فإننا نعني أنه متاح حتى لكل من لا يهب أو يدب، وأن معايير ذلك الشيء نسبية، والخشم كما شرحت هنا مرارا، هو الفم عند السودانيين، ونحن وأهل صعيد مصر نسمي مدخل البيت «خشم البيت»، وبالتالي على الخليجي ألا يحسب أنني أكتم أنفاس بيتي بسد منافذ دخول الهواء إليه، إذا قلت له إنني «قاعد في خشم بيتي»، وبهذا المفهوم فإن مهنة التجارة خشم بيوت، فصاحب كشك غير مرخص له يبيع الإكسسوارات تاجر، وبائع كريمات تفتيح وتقفيل البشرة تاجر، وبائع سيارات المرسيدس تاجر، ومن يبيع بضائع بالملايين من دون أن يتعامل مع الجمهور تاجر، والغريب في أمر علاقة الناس بالتجار، أنهم يكرهون صغارهم، وعواطفهم محايدة تجاه كبار التجار، أي أنهم لا يرون أن هناك ما يحملهم على حبهم أو كرههم، ذلك لأن الجمهور يحب أو يكره التاجر الذي يتعامل معه مباشرة، وبما أن التعامل اليومي أو شبه اليومي يكون مع المحلات التجارية الصغيرة، فإن مشاعر الكراهية وسوء الظن تصوب نحو مالكي تلك المحلات، فهم من يأتون بالبضائع الرديئة، وهم الذين يتسمون بالجشع و«واستغلال حاجة المواطنين إلى السلع»، مع أن التاجر الصغير ليس هو من يحدد سعر السلعة بالضرورة، بل يحددها التاجر الكبير جدا الذي يعمل بالنظام المعروف بـ«الجملة»، فهو الذي يوزع السلع على المحلات الصغيرة وفي ضوء السعر الذي يفرضه عليهم يحدد «الصغار» هوامش ربحهم.
ومع أنني من المكتوين بنار الغلاء، إلا أنني لا أشكو من جشع التجار، فالجشع عنصر أساسي لتحقيق الأرباح، ولكنه لا يقود بالضرورة إلى النجاح المنشود، لأن التاجر الشاطر هو من يجتذب الزبائن بعرض السلع بأسعار مخفضة، ليبيع أكثر ويربح بالتالي أكثر، وبالتأكيد وحتما فإنني ضد الجشع، عندما يعني الشطط في تسعير سلعة ما، وعندما يعني افتعال شح في السلع لزيادة الطلب عليها بهوامش ربح فلكية، رغم أنه من أبجديات التجارة أنه عندما يفوق العرض الطلب تنخفض الأسعار والعكس صحيح، ولكن وفي العالم العربي بالذات يصعب حتى وصم تاجر الجملة بالجشع المفرط، لأنه بدوره يشتري معظم بضاعته من جهات خارجية: الأرز والملابس والبلاي ستيشن ودبابيس الشعر والشامبو والكاكا (فاكهة لم أفكر قط في شرائها أو تذوقها لأن الجواب من عنوانه) وقلامة الأظافر وحتى الكوسا والبندول، وتلك الجهات الخارجية تحدد بشكل غير مباشر سعر البضاعة للمستهلك.
وحقيقة الأمر هي أن أصحاب المحلات التي تبيع سلعا من نوع أو آخر يعدُّون بمئات الآلاف أو الملايين في كل بلد، ولكن نحو 20% منهم فقط يستحق مسمى تاجر، فلا يمكن أن يكون صاحب بقالة تستطيع أن تشتري جميع محتويات دكانه بنحو مائة دولار تاجرا، ومن يبيع عطورا قيمة القارورة المغشوشة فيه مائة دولار تاجرا أيضا، وهنا مكمن محنة التجارة، فلأن مفهوم التجارة مطاطي فقد نال كثيرون مسمى تاجر عن غير جدارة واستحقاق، ومع هذا فليس في ذلك ما يعيب أو يستفز المشاعر، ولكن يغيظني فعلا مسمى «أعمال حرة»: أنت شغال شنو: أعمال حرة؟ وهل أعمالنا نحن مقيدة ومكبلة؟ فمن يقول إنه «أعمال حرة» يقول من حيث لا يدري «أنا بتاع كله»، فالعمل -أي عمل- يجب أن يكون معرّفا وله توصيفات معينة، وفي عصر انتهت فيه تجارة الرقيق ليس من اللائق أن يتبجح شخص ما بأن مجاله لكسب العيش هو الأعمال الحرة: قل أنا نجار/ حداد/ موزع سلع/ مندوب لعدة شركات تأمين، فطالما أنت صاحب مهنة أو نشاط معين فلا «تستعر» منه، ولا تنسب نفسك إلى مهنة هلامية، ومن يشتغل بالتجارة اسمه تاجر ومن يعمل في التدريس اسمه مدرس فهل نسمي من يقول إنه في مجال الأعمال الحرة «أعمالي حُرِّي»؟
[/JUSTIFY]
جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]