منى أبوزيد تكتب : المسافة الرئاسية..!
“الحاكم فرد في الأمة وليس الأمة في فرد”.. خالد محمد خالد..!
قبل نحو ثلاث سنوات توفي الفنان المصري طلعت زكريا الذي جسد شخصية طباخ الرئيس في فيلم يحمل ذات الاسم، ويتناول أنسنة علاقة رئيس الجمهورية بهموم وقضايا شعبه بعد نشوء علاقة صداقة قوية بينه وبين طباخه الخاص..!
بعد نجاح الفيلم أصيب زكريا بمرض عضال تطلب علاجه نفقات باهظة فأصدر رئيس الجمهورية ــــ الحقيقي ــــــ قراراً بعلاجه على نفقة الدولة، ثم تماثل للشفاء وطويت صفحة المرض، وانصرفت الصحف والقنوات الفضائية إلى شؤون أخرى أكثر إلحاحاً..!
قبيل اندلاع الثورة المصرية ـــــ أي في آخر أيام حكم مبارك ـــــ عادت صور الرجل لتتصدر عناوين الصحف الرئيسية وتمت استضافته في معظم البرامج التلفزيونية على كل القنوات. أما السبب فهو أن الرجل قد استيقظ ذات صباح على مكالمة هاتفية من مكتب رئاسة الجمهورية تدعوه لزيارة السيد الرئيس..!
وهكذا تفاقم الجنون الإعلامي في مصر، كلما ضغطت على زر الريموت كنترول باحثاً عن قناة مصرية في تلك الأيام انبثق السيد طلعت زكريا وهو يجالس بحبور مذيعة أو مذيعاً محتشد الحواس مبهور الملامح فيما يشبه الخشوع، وموضوعهما الرئيسي ــــ بطبيعة الحال ـــــ هو تفاصيل كل ما دار بين مبارك وزكريا من “ونسة لذيذة”..!
السيناريو كان كبيراً ومليئاً بالتفاصيل، من نهوض الرئيس من خلف مكتبه وفتحه ذراعيه على اتساعهما لاحتضان فنان من عامة الشعب، إلى مشاهد العناق والقبلات المؤثرة .. إلخ .. بعد جلسة زكريا مع الرئيس علم الشعب أن السيد الرئيس يعيش على إفطار متقشف جدًا “بقسماط.. جبنة.. شاي”، أما الغداء فقطعة صغيرة من السمك والأرز، وليس “أربعة كيلو جمبري” كما ورد على لسان إحدى شخصيات فيلم طباخ الرئيس..!
أما الفنان طلعت زكريا فقد أخبر وسائل الإعلام ـــــ بفخر لم يجتهد في السيطرة عليه ـــــ أنه قد تحدث مع رئيس الجمهورية عن مُعاناة الشعب مع رغيف الخبز وازدحام المواصلات وغلاء الأسعار. وبعد أن أخذ النجم السينمائي صورة تذكارية مع السيد رئيس الجمهورية انصرف سعيداً وذهنه “ينْتَح” بما سيقول به لوسائل الإعلام عن أغلى وأهم ساعتين في حياته..!
المشكلة أن قيامة طلعت زكريا نفسه قد قامت – بعد اندلاع الثورة – على أيدي الشعب المصري وعلى شاشات إعلامه الذي كان يستضيفه ويمجد حكاياته عن رئيس الجمهورية الذي أمسى بين ليلة وضحاها سجيناً مغضوباً عليه. لكن الذي يعنينا من الحكاية هو ظاهرة فرعنة الرؤساء في مصر الشقيقة من عبد الناصر إلى السادات إلى مبارك إلى السيسي..!
صحيح أن الرئيس مبارك كان معروفاً بانتباهاته اللطيفة ولفتاته الهاتفية المشجعة مع لاعبي المنتخبات الرياضية الوطنية قبل دخول المنافسات، ومع كل من يشرع في تمثيل مصر أمام العالم في أي مجال وفي كل محفل، ومع غيرهم. لكنه أيضاً كان شحيح الظهور في لقاءات مباشرة، وهذا الشح أضفى على وجوده الفيزيائي بالقرب من أي مواطن الكثير من الرهبة والكثير من العظمة..!
أما نحن في السودان، فمن حقنا أن نفاخر بأن منصب رئيس الجمهورية في بلادنا قد كان ولا يزال لا يؤمن بثقافة الأسوار العالية – بغض النظر عن شمولية الحكم من ديمقراطيته وبصرف النظر عن استبداد الحاكم من عدالته – وهذا أمرٌ مبعثه طبيعة الشخصية السودانية نفسها، فهي تميل بطبيعتها إلى البساطة ولا تنتهج التعالي ولا تؤمن بمبدأ العزلة المجيدة..!
ومن المشهود به جداً لمن يشغل منصب رئيس جمهورية السودان على مر التاريخ قربه المعقول من الناس وفي كل المحافل، حتى أنك كثيراً ما تجده في بيت عزاء أو مجلس عقد، يجالس الناس باطمئنان وثقة، وهذا شأن مبعثه أيضاً طبيعة الشعب السوداني، معارضاً كان أم موالياً. لن تجد عندنا أبداً مثل تلك الأخبار الرئاسية التي تملأ مصر وتشغل شعبها، لن تجدها تتصدّر عناوين صحفنا أو تشغل حيِّزاً من وقت إعلامنا المرئي، لأنه ببساطة يحدث فيمر مرور الكرام..!
تحدثنا كثيراً عن مثالب الشخصية السودانية وأسهبنا – غير مرة – في تفكيك عيوبها ونقاط ضعفها، لكن المُؤكّد هو أننا شعبٌ لا يؤمن بثقافة الأبراج العاجية ولا ينتهج تأليه الحكام. هي ــــ على كل حال وعلى الرغم من كل شيء ـــــ ميزة شعبية نسأل الله تعالى أن يحفظها من الزوال..!
صحيفة الصيحة