جعفر عباس

جعفر عباس يكتب.. باي برقيق مرحبا وادي سيدنا


وفي مساء ذات يوم قال الراديو ان جعفر ابن المعلم عباس نجح، بالإنجليزي “يا منز”، ومقبول في مدرسة وادي سيدنا الثانوية، ونجح معي ثلاثة آخرون من بدين كانوا أيضا في البرقيق (أهلي يقولون عنها “برقي” ولا ينطقون الألف واللام في الاسم): عبد اللطيف الطيب وعبد الرحيم عمر وحسن عبد الله، وتربط أربعتنا قرابة دم من الدرجة الأولى، ولكن عبد اللطيف رحمه الله فقد طعم النجاح لأنه تم قبوله في خور طقت الثانوية، بينما قبلوا ثلاثتنا في وادي سيدنا، ولم يكن أهلنا في الشمال يعرفون مدرسة ثانوية سوى وادي سيدنا، ومن باب مواساة عبد اللطيف قال له كبارنا: معليش تمشي وادي سيدنا بعد ما تخلص خور طقة (هكذا كانوا ينطقون طقت)
في المرات التي زرت فيها كوستي وانا طالب في المرحلتين الابتدائية والوسطى كنت استقل البص من كرمة الى كريمة لركوب القطار، وكانت المحطة المفضلة عندي هي “الكاب” حيث كنا نجد فيها ما لذ وطاب، ولكن وفي رحلة مغادرة بدين للالتحاق بوادي سيدنا كان السفر باللوري المزود بمقاعد عبر الطريق المسمى دنقلا – ام درمان، (من اكتشف هذا الطريق وجعله سالكا هو المرحوم عمر عبد السلام، الذي غامر بركوب لوري لاكتشاف طريق يربط شمال السودان بالعاصمة، وقضى بضعة أيام في فيافي الصحراء النوبية حتى تمكن من رسم مسار في الذاكرة، ثم لاحقا كان هو والمرحوم حسن صبري من قدما بصات لنقل الركاب عبر هذا الطريق ووضعا جداول زمنية لحركتها)
كانت اللواري والبصات على ذلك الطريق تسير في شكل قافلة خوفا من الضياع لعدم وجود معالم تحدد المسار الصحيح، وكان السائقون يتفادون السفر ليلا على ذلك الطريق، لتفادي أبو كدوس وهو شيطان يتحرك امام العربات وضوء خافت ينطلق من الكدوس ليستدرج السائقين ليتبعوه ويتسبب في ضياعهم وهلاكهم. ومن ثم كانت قوافل العربات تتوقف ليلا على مسافة نحو اربع ساعات من ام درمان لينام الجميع ويتسنى دخول المدينة في ساعات الصباح الأولى، وكان من المألوف جلوس السائقين ومعهم المساعدين في حلقة تتناطح فيها كؤوس العرقي
ثم وصلت كوستي، وكانت بها وقتها اختي فاطمة رحمها الله، التي أمرتني بدخول الحمام بعد أن أعطتني صابونة حسبتها في بادئ الأمر كيكة، وكانت تلك اول مرة استحم فيها بصابون بوكيه العطري الفاخر، وجلست تحت الدوش قرابة ساعة مستمتعا بماء ينثال كما الشعيرية التي أحبها على جسمي حتى تعالت الصيحات: يا ولد امرق (لأن البلاعة امتلأت)، وخرجت من الحمام رشيقا لأنني فقدت بضعة كيلوجرامات من الأوساخ، وأجلستني فاطمة على بنبر وجلست قبالتي بعد ان وضعت قدمي في طشت مملوء بالماء ثم أتت بحجر وطفقت تفرك قدمي وهي تطنطن: طين البحر ما بيكون مشقق كدا، وكنت متضايقا من كل ذلك لأنني كنت اسمع ان أولاد البندر سحاسيح ويحرصون على تلميع البشرة بمختلف الوسائل (بندر كلمة فارسية الأصل وتعني الميناء او المدينة الكبيرة)
وباكتشاف صابون بوكيه فارقت صابون حبوبة فاطنة الذي كنا نغسل به ثيابنا واجسادنا ومواعين طعامنا، بل وجدت في كوستي صابون صافي (ال حيَّر أوصافي) لغسل الأيدي والملابس، ثم واستعدادا للنقلة الى وادي سيدنا أتاني ابي بقطعة قماش صفراء فصل لي منها جارنا “حبيب الفلاتي” اول بنطلون في حياتي (كان أصفر اللون)، وصمد البنطلون طوال سنوات المرحلة الثانوية وتخلصت منه عند دخول الجامعة خوفا من “التريقة”