تحقيقات وتقارير

جزيرة توتي السودانية… موطن الأساطير والجنائن


عند اقتران النيلين الأزرق والأبيض تستلقي جزيرة توتي السودانية كعروس لم تفقد بريقها لقرون، وتوحي ملامح حياة الناس فيها بمعالم الأصالة والتمسك بالقيم التقليدية التي لا تشبه نمط المدينة الصاخبة، بل تلتحف بطبع ريف أصيل في قلب الخرطوم.

وتتوسط مدن العاصمة الثلاث بحري وأم درمان والخرطوم، فالنقل النهري كان الوسيلة الوحيدة التي تربط بينها منذ سنين ماضية، قبل أن يقرب الجسر الجديد المسافة، في حين يضع البعض آمالهم على الجسور المعلقة في النهضة العمرانية، لكنها تبقى مصدر قلق لأهالي هذه الجزيرة، بخاصة القدامى منهم، خشية أن تكون سبباً في ضجيج قد يبدد سكون حياتهم التي ألفوها، وتعد الجزيرة أكبر مساحة خضراء، إذ تحتضن أعداداً من بساتين الفواكه والخضراوات ترفد بها الأسواق كافة.

منبع المبدعين

“درة النيل” كما يحلو لأهلها وعشاقها تدليلها، فهي مدينة ذات عبق خاص وتاريخ ضارب في الجذور، لكن من جهة أخرى تعتبر منبعاً للمبدعين، إذ تملك كنوزاً من الثقافة والفكر والغناء.

ويعلق الشاعر أنس عبدالصمد على الحركة الفنية في هذه الجزيرة قائلاً “ألهمت توتي خيال الشعراء، فنظم التجاني يوسف بشير فيها (يا درة حفها النيل واحتواها البر)، كما تغنى الفنان سيد خليفة لها بأغنية (يا جزيرة توتي يا جنة فيك السهران يتغنى)، فضلاً عن كثير من الأغاني التي ألفت ولحنت بحب الجزيرة، ولا عجب في ذلك لأنها اكتسبت، بتنوع ثقافات ساكنيها، شخصية فريدة داخل نسيج الإبداع السوداني متعدد الفنون”.

وتقدم توتي الموصوفة بمدينة الثقافة أجيالاً جديدة من المبدعين، وفي هذا السياق قال عبدالصمد “خرجت أشهر الفنانين في البلاد منهم حمد الريح وإبراهيم خوجلي والعاقب محمد الحسن وأولاد فرح وقسم الله طمبل وعبدالعال عبدالله وعازف الكمان والعود أحمد الشيخ، ومن الشعراء برز محمد النور وأمين مصطفى خليفة (أبو شوقي) والصادق عبدالرحمن النجومي وزين العابدين خالد والأمين أحمد عبدالرحيم، ومن الأدباء مدير بيت الشعر بالخرطوم الصديق عمر الصديق ومعاوية محمد نور، واللافت أن اثنتين من نساء الجزيرة هما من نظمتا القصيدة التي يقول مطلعها (عجبوني الليلة جو ترسو البحر صددو)”.

ترفيه وسياحة

وآلاف البسطاء يقصدون “بيتش” توتي هرباً من درجات الحرارة المرتفعة، وكلف الحدائق العامة، كما يعتبر الشاطئ معقلاً للعشاق الذين يأتون من كل مكان ويجلسون على كراسي بلاستيكية مزينة بألوان مختلفة ومياه النيل تلامس أرجلهم.

عضو منتدى توتي الثقافي مهند مدثر عبادي قال “البيتش تحول إلى ملعب مفتوح، وأضحت رماله الممتدة مرسماً للأطفال، تتكون موادهم من مياه النيل الدافئة والرمال الناعمة في بناء وحفر ما يشاؤون، علاوة على لوحة أخرى يضمها الشاطئ يرسمها محبو الزوارق النيلية من خلال منافسة مصغرة في التجديف، كما أتيحت للصغار فرصة اكتشاف هذه المراكب الصغيرة واللعب حولها، مما شكل متنفساً للأسر وأتاح لهم مساحة لاكتشاف مواهب أبنائهم في النحت”.

أضاف عبادي “بيتش الجزيرة ليس مؤهلاً بالشكل السياحي النموذجي، لكن هناك حاجة للناس إلى مثل هذه البرامج الترفيهية، على رغم أن السياحة في السودان لم تحظَ حتى اللحظة بدورها المرجو في تنمية الاقتصاد، وهناك معالم طبيعية إذا نظر في أمرها درت على البلاد ذهباً من غير تنقيب ولا عناء”.

مجمع البحرين

ترتبط توتي بعديد من الأساطير والحكايات. ويقول عضو المنتدى الثقافي “الاعتقاد السائد عند أهالي المنطقة ولدى كثيرين من السودانيين، وكتب عنه بعض الباحثين والمؤرخين أن النبي موسى في رحلة البحث عن العبد الصالح التقى الخضر في توتي بوصفها مكان الصخرة، ومجمع البحرين النيلين الأزرق والأبيض”.

جنائن ومزارع

وتعد توتي منطقة زراعية تكتسيها الخضرة بخاصة عند الأطراف، وتحوي بساتين ومزارع متلاصقة مع مياه النيل المتدفقة من دون انقطاع، وترفد أسواق الخرطوم بالخضراوات على أنواعها والفواكه مثل الموز والبرتقال والجوافة والمانجو.

وأشار أحد مزارعي الجزيرة علي حسين البشير إلى أن “الجنائن المخضرة كانت تحقق اكتفاءً ذاتياً للأسر في المنطقة والعاصمة، وتمتاز بجمال الطبيعة الذي توفره الأشجار والأزهار وجداول المياه، ومثلت ملاذاً للعاشقين للتمتع بالخضرة ورسم خطوات المستقبل”.

ولدى البشير قلق شديد من تدني الإنتاج الزراعي في جزيرة توتي لأسباب عدة منها ارتفاع أسعار الأسمدة والمبيدات والبذور وغيرها.

مأساة الفيضان

في فصل الخريف من كل عام يعاني أهالي هذه الجزيرة فيضان النيل، لكن صمودهم المتكرر سنوياً يجسد ملاحم تاريخية لصراع الإنسان مع الطبيعة.

ويسرد الموظف السابق في النقل النهري التوم سالم بقادي كيفية مقاومة سكان توتي الفيضانات، وبين بقادي أن عزيمة السكان أسهمت في مجابهة عنفوان النهر المتمرد الذي يحاول ابتلاع أرضهم كل عام لتصبح المقاومة تراثاً تتناقله الأجيال، من خلال خبرتهم المتوارثة بخاصة استخدام السواتر الترابية المعروفة محلياً بـ”الترس” للحيلولة دون دخول المياه إلى المنازل والمزارع. وختم الموظف السابق بالنقل النهري أن “المهارات التقليدية غير مجدية في كثير من الأحيان، ولن تحقق النجاح في كل عام، والتجربة أكدت الحاجة إلى وسائل علمية في مقاومة الفيضانات”.

وفي أكتوبر (تشرين الأول) من عام 2015 اختار برنامج الأمم المتحدة للحد من أخطار الكوارث، جزيرة توتي ضمن أفضل ثماني مناطق على مستوى العالم في استخدام المهارات التقليدية والثقافة المحلية للحد من أخطار الفيضانات.

عثمان الاسباط
إندبندنت عربية