مهن ومحن (40)
ظهرت في عالم اليوم مهن يصعب تصنيفها، فمع ظهور الكمبيوتر ثم الإنترنت، دخلت السوق سلع غير محسوسة، لا تستطيع أن تراها بالعين أو تلمسها، وبالتالي ليس من الخطأ وصفها بأنها سلع افتراضية، رغم أنها تدر المليارات على من يبيعونها، انظر إلى فيسبوك مثلا، الذي يتألف من كلمتين إنجليزيتين «فيس» وتعني «وجه» و«بوك» وتعني «كتاب»، ولو استخدمت خدمة فيسبوك على الإنترنت فلن تجد فيه أثرا أو رائحة لكتاب، وستجد فيها ملايين الفيسات التي تخص المفسفسين البوكيين، ومعظم الفيسات التي تخص المستخدمين العرب من فصيلة «أفاتار avatar» وهي كلمة تعني أصلا تجسيد الآلهة عند الهندوس، وصارت تعني في القاموس الحديث الهيئة العامة لآدمي «إسكتش»، وبعض تلك الفيسات مسروقة، والفتيات بالذات يضعن صور الممثلات وأطفال العائلة وهكذا قد تكون نانسي صديقتك الافتراضية، ولكنك ترى في الصورة حمودي ابن أختها يفلفط داخل بامبرز أكبر من مقاس خاصرته.
مارك زُكربيرغ كره الجامعة، وفكر مع صديقين في إنشاء موقع على الانترنت يتعارف فيه الناس ويتآنسون، وعند تنفيذ الفكرة وجدت رواجا شديدا وأدرك زكربيرغ أن الموقع الذي أسموه فيسبوك سيشد الملايين من مختلف أنحاء العالم، وتكتك وزحلق شركاءه، وانفرد بتنفيذ الفكرة على نطاق واسع، ونمارس أنا وأنت الفسفسة التي هي الفضفضة الهامسة، وإن ضايقتك الكلمة قل الفسبكة، ونقول لصاحبها «ما قصرت، ولا نعرف ماذا كنا سنفعل بدونك، فيا ما جمعت رؤوسا بالحلال وجيوشا بالحرام، ولكن المهم أنك وسعت دائرة معارفنا من دون ان نضطر الى مغادرة بيوتنا، ونشارك في شلل أنس جماعية، حتى لينسى الواحد منا الوجبات والواجبات»، وكل من يستخدم فيسبوك لديه الآن بضعة أصدقاء لم يلتق بهم في حياته يعرف عنهم ويعرفون عنه أشياء كثيرة، وإذا لم يفسفس اويفسبك يوما واحدا انهالت عليه الرسائل: وينك؟ لعلك بخير، وهناك المعارف الذين لم ينالوا الترقية الى رتبة صديق وهؤلاء يتم جبر خواطرهم بـ «لايك» حتى إذا كتبوا خرابيط، أو كلاما مسروقا عن شخص آخر (وهذه شائعة جدا في فيسبوك حيث ينقل كثيرون الحكم والمواعظ والآراء الفلسفية عن دهاقنة في مجالاتهم وينسبونها إلى أنفسهم).
وأنت يا أهبل مبسوط، وتعتقد أن زكربيرغ فاعل خير، ويفوت عليك ان تطالب بعمولتك من البلايين التي تدخل جيبه بسبب ونستك أنت وغيرك على الموقع الذي أنشأه، وتنسى أن زكربيرغ هذا لم يخترع الكمبيوتر ولا الإنترنت، وكلاهما متاحان لكل راغب نظير مبالغ صارت في يومنا هذا رمزية، ولكنه يستغلني ويستغلك لاستدراج الإعلانات، التي تعود عليه بالملايين يوميا، ولكن ليس من الإنصاف أن نقول عن الرجل إنه مستهبل او طفيلي، بل هو إنسان في غاية الذكاء، واخترع لنفسه مهنة وكون ثروة دون أن يكون لديه رأس مال سوى قدرته الاستشرافية وقراءة مستقبل سوق التكنولوجيا، بينما رجل مثل بيل غيتس صرف دم قلبه لتطوير الكمبيوترات وبرامج ويندوز الشهيرة، وبالتالي كان بديهيا ان يصبح ملياديرا لأنه يبيع سلعة محسوسة.
وهناك سوق «أمازون» على الانترنت، وبدأ ببيع الكتب ثم توسع وصار يبيع كل شيء يمكن إرساله للزبون بريديا، وقد اكتشفت في الفترة الأخيرة أن أمازون هذا من أفضل المتاجر في العالم، فالسلعة التي تباع في منطقة الخليج – مثلا – بمائة دولار، تستطيع الحصول عليها من أمازون بـ60 دولارا شاملة رسوم الشحن، وشطارة أمازون تكمن في أنها تشتري مختلف أنواع السلع بكميات مهولة وتحدد لنفسها هامش ربح بسيط، وبالتالي تبيع عشرات الآلاف من مختلف أنواع السلع يوميا، ولأعطيك فكرة عن حجم نشاطها، فإن كل موظف يعمل في مخازنها مطالب بالاستجابة لطلب الزبون الواحد خلال 45 ثانية (وهي مدة لا تكفي عندنا حتى لينزل التاجر البضاعة من الرف الذي يقع خلفه).
[/JUSTIFY]
جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]