ثقافة وفنون

“كرنق” السودان… رقصة النوبة بين الأزل والأبد


تتفرد معظم مناطق السودان وقبائلها المختلفة برقصات شعبية يمارسها أفرادها في المناسبات الاجتماعية والاحتفالات العامة والخاصة كتقيلد ثقافي وتراثي يمثل نوعاً من العادات والتقاليد المستمدة من بيئة وحياة تلك الشعوب.

في جنوب كردفان الواقعة جنوب غربي الخرطوم وتضم 99 جبلاً، ينتشر كثير من الرقصات الشعبية، لكن رقصة “الكرنق” هي الأكثر شهرة وولعاً بين شعوب تلك المنطقة، إذ لا تخلو ساحة أو ميدان خلال اليوم من ممارسة تلك الرقصة من قبل كل فئات المجتمع، لكنها تمارس بشكل واسع خلال فترات عمليات الحصاد السنوي ومناسبات الزواج والختان وحملات النفير المختلفة من أجل إشعال جذوة الحماس.

وبحسب الباحثين في هذا المجال، فإن “الكرنق” تنطق في الأصل “الكرنل”، وهي مقتبسة من تمايل الأغصان عندما تهب الريح عليها، وتتميز بها قبائل الأجانق التي تقطن منطقة جنوب كردفان.

موروث ثقافي

الباحث في تراث النوبة جراهام عبدالقادر، قال إن “أكثر الإيقاعات انتشاراً في جبال النوبة هو إيقاع (الكرنق)، ويطلق على الآلة الموسيقية التي تعد من أنواع الطبول المصنوعة من الخشب والجلد، كما يطلق الاسم نفسه على الرقصة، بينما لـ(الكرنق) آلة موسيقية مساعدة تعزف على وتيرة واحدة لا تتغير، ويحدث العازف الماهر على الآلة تنويعات عدة”.

وتابع “شركاء الرقصة هم العازف والمساعد الذي يدق الإيقاع المستمر ويعزف على الألواح الخشبية أو على صفيح أو أية مادة تصدر صوتاً إيقاعياً، في ما تمثل مجموعة الرجال والنساء الشريك الأصيل في حلقة الرقص، أما الغناء فعادة ما تؤديه مغنية واحدة تكون هى الملحنة والشاعرة في الآن نفسه”.

وأضاف عبدالقادر “من الأشياء الغريبة أن كلمات تلك الأغاني تكون وليدة اللحظة، وليست عبارة عن قصائد مكتوبة مسبقاً يتم تلحينها، وتقوم بقية النسوة من حول المغنية بالتصفيق بإيقاع محدد يزيده الأداء حماساً وقوة ويجعله متماسكاً من قبل المجموعة، فضلاً عن ترديد ما تؤديه المغنية من كلمات غنائية، ويكون ذلك بالتبادل، وتجري عملية الرقص الذي يكون ثنائياً بين الرجل والمرأة، وعادة ما يكون في شكل دائرة بحيث تشارك الفتيات بجانب الشباب في الرقصة”.

قومية الإيقاع

عن إيقاع “الكرنق” في السلم الموسيقي، أوضح الباحث في التراث النوبي أنه “إيقاع ثلاثي كما صنفه الموسيقيون، 6 في 12 في حال البطء، وعكس ذلك في حال السرعة، بيد أن التصفيق يؤدي مهمة الآلة، وينتشر هذا الإيقاع في معظم مناطق جبال النوبة ما يجعله موجوداً بكثافة في هذا الإقليم، بل ويتعداه ليصل إلى قبائل أخرى مثل الحوازمة التي أصبحت شريكاً في هذه الرقصة”.

هكذا “يحتفي” أهل جبال النوبة بالموت
ومضى عبدالقادر قائلاً “تمثل هذه الرقصة تاريخاً ضارباً في التراث والثقافة السودانية، ونوعاً من العادات والتقاليد التي تمارسها الشعوب النوبية إلى هذا اليوم، على رغم هجرات قبائل النوبة، إلى جانب أن (الكرنق) ظلت تعالج قضايا اجتماعية ملحة كظاهرة انتشار المخدرات وتمجد المصارعين الذين يعدون رموزاً للقبيلة، فضلاً عن معالجة القضايا التي تتعلق بالعادات الضارة كختان الإناث والتنشئة الاجتماعية، مما يجعل منها نادياً اجتماعياً يتم في فضاء ثقافي مفتوح ليحارب خلاله الشباب عيوب المجتمع والجريمة”.

أعياد الحصاد

يبين عبدالقادر أن “(الكرنق) ليست ممارسة موسيقية تقرع من أجلها الطبول، لكنها كتاب يتضمن تسلسل أنساب ومجريات أحداث لمن كان متميزاً في الإنتاج الزراعي أو تشييد مدرسة أو تعمير طريق، فهي شكل من أشكال الإعلام يقدم معلوماته مساءً، ويكون حديث المنطقة في الغد، لذلك يجب توثيقها”.

وأضاف “رقصة (الكرنق) تلعب دوراً فعالاً في مواسم الحصاد، الذي يبدأ عادة في أكتوبر (تشرين الأول) من كل عام، وتتم الترتيبات لهذا النشاط الثقافي الكبير بمعسكرات للشباب، مما يجعل هذه الرقصة عاملاً مساعداً في زيادة الإنتاج”.

وأشار إلى أن “الكرنق” وصلت إلى العالمية بفضل جهود فرقة “السمندل”، وهي إحدى الفرق السودانية التي تهتم بالتراث الشعبي، إذ أدخلت مقطوعة من جبال النوبة بنوتة موسيقية وأوركسترا تضم كل الآلات الموسيقية كاستلهام للأغنية التراثية، إلى جانب أن إيقاع “الكرنق” أدخل على الأغاني العربية، مما جعل الأداء مختلفاً، فضلاً عما قدم من برامج عبر الإذاعات والتلفزيونات المختلفة، مما أسهم بشكل كبير في نقل ثقافة “الكرنق” إلى دول عربية وأوروبية عدة.

أزياء ودلالات

تشير الباحثة في الأزياء الشعبية أميرة الفضل إلى أن الأزياء والأكسسوارات الخاصة برقصة “الكرنق” تشكل جانباً مهماً وجاذباً لدى كل من يتابع ويشاهد تلك الرقصة، بخاصة أنها تتميز بالألوان القوية مثل الأصفر والأحمر والأخضر، لافتة إلى استخدام أدوات التزيين على نطاق واسع بخاصة الخرز “السكسك” الذي يستجلب من مناطق شرق أفريقيا، فضلاً عن استخدام القطن في حياكة الملابس، لا سيما أن منطقة جبال النوبة (منبع هذه الرقصة) تشتهر بزراعته.

وأوضحت فضل أن “الفتيات اللاتي يمارسن هذه الرقصة يرتدين إزاراً مصنوعاً من القطن يتزين بالحلي ويكون في شكل خطوط كثيفة تربط في وسط الفتاة، وعادة تصنع من الخرز معاصم تزين الأيدي والأعناق، كما توضع على الأرجل قطع حديدية أو نحاسية تصدر أصواتاً عالية عند الحركة، إذ تتناغم مع التصفيق، بينما يضع الرجال ريشتين على جانبي الرأس، وتكون معصوبة بأشرطة ذات ألوان زاهية تلفت الانتباه، وتكون أجسادهم مطلية بمادة حجرية لامعة كنوع من أنواع الزينة، في حين تستخدم أثناء الرقص آلة نفخ تعرف بالبوق (الصفارة) تصدر أصواتاً متميزة لضبط الإيقاع”.

إندبندنت عربية