مهن ومحن (41)
هناك مهنة اعتقد أنها في طريقها إلى الانقراض او الاضمحلال، رغم أنها ذات صلة وثيقة بالكمبيوتر، وهي تكنولوجيا المعلومات، ولن تنقرض في تقديري بأن تصبح غير مرغوب فيها، أو لا إقبال ولا حاجة إليها، بل بمعنى أن من يدرس تكنولوجيا المعلومات في الجامعة خلال السنوات المقبلة، قد يضطر إلى بيع البيض في بسطة/ مسطبة في السوق الشعبي، وذلك لأن تكنولوجيا المعلومات صارت ضرورة لا غنى لأي جهة عنها، وبالتالي فسيأتي قريبا اليوم الذي يكون فيه كل موظف ملِمّاً بالحد الأدنى من المقدرات والمهارات في ذلك المجال لتصريف مهامه، مما قد يعني أنه لن تكون هناك أقسام وإدارات ضخمة لتكنولوجيا المعلومات في معظم مواقع العمل، بل تكتفي تلك المواقع بعدد قليل من موظفي الإسناد في هذا القطاع، وبالطبع وبالتأكيد وحتما ستظل الحاجة إلى أساطين وفنيي تلك التكنولوجيا قائمة وفي ازياد، لأنها مجال يشهد تطورات متلاحقة، ولكن الفوز بوظيفة فيه سيكون للمتفوقين والبارعين جدا، بمعنى أن كونك حاصلا على بكالوريوس تكنولوجيا المعلومات لن يجعل منك مؤهلا بالضرورة للعمل في هذا المجال، ومشكلة كثيرين ممن يدرسون تلك التكنولوجيا هي أنهم اختاروا دراستها باعتبار أنها «تكنولوجيا» بمعنى «موضة حديثة»، وإذا كانت الكتب «آية» زمان مضى فالكمبيوتر وفنونه هو آية هذا الزمان، ولكن ليس كل من يدرس مادة أكاديمية ما يصبح حتما اختصاصيا فيها، ولو كانت المادة علمية وتطبيقية، تصبح فرص نجاح دارسيها في الحياة العملية رهنا بخصوبة الخيال ومتابعة ومواكبة المستجدات والرغبة الملحة في تطوير الذات واكتساب المزيد من المهارات بالاطلاع والتجريب.
وما يؤكد صحة كلامي هذا هو أن من وضعوا مداميك تكنولوجيا المعلومات في مؤسساتنا حتى تسعينيات القرن الماضي لم يدرسوها كمادة أكاديمية، بل إن ظهور الكمبيوتر أشعل فيهم الرغبة في استكشاف عوالمه، وبدأوا بكمبيوترات صخر (البدائية بمقاييس القرن الحادي والعشرين)، وأمضوا الساعات الطوال وهم يبحرون في مياه بلا تضاريس أو علامات إرشادية أو تحذيرية واكتسبوا مهارات عالية بطريقة «ترايال آند إيرور/ التجربة والخطأ». ومخترع اللابتوب الذي جعل من شركة أبل أحد أبرز عمالقة سوق التكنولوجيا، لم يدرس حرفا من علوم الكمبيوتر، بل ومنذ أن كان في الثالثة ظل شديد التعلق بالتكنولوجيا والكهرباء ولأنه انطوائي، وكان عازفا عن حياة الصخب، فقد وجد الوقت لإنجاز اختراعه، وكان بهدف توفير كمبيوتر زهيد الثمن ليتمكن محدودو الدخل من اقتنائه، واشترى اختراعه الراحل ستيف جوبس الذي اشتهر بوصفه عبقري منتجات أبل، (آيبود وآيفون وآي باد وآي تيونز)، مع أنه لم يخترع حتى مسمارا في تلك الأجهزة والبرمجيات.
والشاهد هو أن دراسة تكنولوجيا المعلومات لا تجعل من كل دارس تكنولوجيّا معلوماتيا، فالبقاء في هذا الميدان سيكون للمبدع حتى غير «الدارس»، ويصح هذا الكلام على مجالات أخرى، ولنتذكر أن أول شخص نال درجة الدكتوراه في التاريخ، نالها من أناس لم يكونوا يحملون تلك الدرجة، ولكنهم قطعا كانوا أكثر منه علما ومعرفة في مجاله، وأردد مجددا بأنني أعتقد أن تكنولوجيا المعلومات بالتحديد لن تصبح في المستقبل المنظور مجالا تخصصيا كما هو الحال اليوم، لأن معظم مستخدمي الكمبيوتر سيصبحون رغم أنوفهم أو طوع اختيارهم حسني الإلمام بفنون وحيل وتكتيكات تلك التكنولوجيا، ويصبح البقاء في تلك المهنة لـ«الأصلع» أي المتمرس الذي عركته التجارب وتراكمت عنده الخبرات لعصاميته وليس فقط لكونه درس تلك التكنولوجيا في الجامعة.
[/JUSTIFY]
جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]