أي مستقبل لقوى الإسلام السياسي في السودان؟
على عكس المتوقع، وربما بسبب حالة السيولة السياسية السودانية في فترة انتقالية امتدت أربع سنوات، تلملم تيارات الإسلام السياسي السودانية أطرافها حالياً، وتطرح نفسها بديلاً سياسياً للأطراف التي ثارت عليها، وأسقطت رمزها التنفيذي الرئيس السابق عمر البشير في ثورة شعبية مشهودة انفجرت في عام 2018.
وبرزت فعاليات عدة في الفترة الأخيرة تعطي مؤشرات واضحة في شأن قدرة هذا التيار على بلورة قواه السياسية والمجتمعية، والقدرة على تقديم أطروحات تضمن وجوداً سياسياً مؤثراً لهم في المعادلات السياسية المستقبلية، وذلك في ضوء قدرتهم التاريخية على تغيير جلدهم السياسي وأطروحاتهم طبقاً لطبيعة الحالة، وذلك للتخلص من ميراث الخطايا السياسية والاجتماعية، وتغيير الصورة الذهنية السلبية في شأنهم، فهم تطوروا وتغيروا خلال العقود الستة الماضية، من “جبهة الدستور” في خمسينيات القرن الماضي إلى “جبهة الميثاق” في الستينيات، ثم من “الجبهة الإسلامية القومية” إلى حزب “المؤتمر الوطني” مع نهاية القرن.
وربما تكون فعالية إفطار رمضان الذي أقيم أخيراً بالخرطوم في مشهد استعراضي لا تخطئه عين مراقب، آخر المؤشرات التي تشير إلى فعالية تيار الإسلام السياسي في المشهد السوداني، بينما شكلت مطالبة علي كرتي، الأمين العام الحالي لـ”الجبهة القومية الإسلامية” بتسليمهم السلطة مؤشراً آخر، كما يمكن تصنيف المؤتمر السياسي الذي أقيم في قاعة الصداقة في العاصمة السودانية تحت مسمى حركة “المستقبل للإصلاح والتنمية” أهم دلائل الصعود السياسي للتيار الإسلامي في السودان، نظراً إلى أن هذا المؤتمر هو نتاج لفاعلية تنظيمية برزت من خلال عقد مؤتمرات قاعدية في أنحاء متفرقة من البلاد.
وبطبيعة الحال يشكل هذا التطور متغيراً مهماً في المشهد السوداني له أسبابه وتداعياته المتوقعة أيضاً في فترة انتقال سياسي تعاني تحديات عدة.
وقد يكون من المهم التعريف بـ”حركة المستقبل” التي هي تعبير عن قطاع من الإسلاميين الذين كانوا رافضين تمديد فترة حكم البشير في عام 2015، على اعتبار أن ذلك مهدد لمستقبل الحركة الإسلامية بشكل عام. وينخرط في هذا القطاع حالياً الجيل الرابع من شباب هذه الحركة المحسوبين بشكل أو بآخر على حزب “المؤتمر الوطني” الذي كان يقوده البشير، بينما انخرط المعارضون بشكل جذري للرئيس السابق في قطاع إسلامي آخر هو حزب المؤتمر الوطني الموجود حالياً في معسكر “تحالف الحرية والتغيير المركزي” والذي يقود حالياً محاولة تمرير “الاتفاق الإطاري” بدعم من أطراف دولية.
ومن المهم أيضاً تحليل مضمون الخطاب السياسي الذي قدم في “قاعة الصداقة” من جانب “حركة المستقبل للإصلاح”، على اعتبار أنه تعبير عن رؤية ومنهاج عمل لمجموعة تملك مفاصل الدولة الاقتصادية في هذه المرحلة، فهو يطرح مشروعاً سياسياً يقول إنه نهضوي، لأن السودان “لم يكمل بناء دولته وأمته، ولم يكمل تحرره، ولم يتلمس بعد مشروعه الوطني الناهض”. ويصف المشهد بأنه “حروب وفقر وهشاشة في الدولة، وأخطار انقسام وتشتت وهجرات خارج البلاد مطردة، وهجرات نحو البلاد غير منسجمة وبلا ضوابط. مع عدم بلوغ السودانيين مشروعهم الوطني بعد كل هذه العقود”.
كما قدم هذا الخطاب أسباباً للحالة السودانية الراهنة طبقاً لتقديراته يهاجم فيه نخب ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018، كما هاجم صيغ التفاعل الدولي والإقليمي مع الأزمة السودانية، والمعروفة باسم “الاتفاق الإطاري”، حين قال “جاءت الثورة بلا برنامج وطني ولا رؤية ولا نظرية ثورية وطنية. وكرست بذلك تمدد المشروع الأجنبي في السودان، وإكمال حلقة استتباع السودان في النظام العالمي الغربي سياسياً واقتصادياً وثقافياً، ثم مكنت فئات وأقليات مغتربة عن الواقع من حكم البلاد. والأخطر من ذلك أن البيئة الفكرية والسياسية بعد الثورة باتت أقرب إلى مشاريع الاغتراب من مشاريع الأصالة الوطنية. بكل ما سبق فالدولة مهددة والتماسك الوطني مهدد، وطريق التنمية الاقتصادية وفق نموذج تنموي مغاير للنموذج النيوليبرالي بات طرحاً أقرب إلى الكفر منه للإيمان”.
تحديات أمام تكوين جيش موحد في السودان
وقد غازل هذا الخطاب أيضاً الحزبين الكبيرين من دون أن يسميهما وهما الحزبان اللذان يشكل فيهما الدين إطاراً مرجعياً مهماً، وهما حزبا “الأمة” و”الاتحادي”، فسماهما الخطاب “الأحزاب السياسية الراشدة العقلانية” حيث دعا في هذا السياق إلى “الانتظام في تحالفات سياسية كبيرة”.
وطبقاً للجمل والمفردات السابقة في هذا الخطاب المهم نستطيع أن نفهم أموراً عدة، منها أولاً الدعوة إلى تحالف واسع يكون التيار الإسلامي جزءاً منه، ثانياً رفض المشروع السياسي المطروح حالياً بفاعلية من جانب الأطراف الدولية، ثالثاً تجاهل مشروع التحول الديمقراطي برمته والذي تتبناه القوى الثورية.
بشكل عام نستطيع القول إن المطروح من جانب قطاع مؤثر من الإسلاميين هو العودة إلى المعادلة السياسية التي كانت حاكمة أيام الرئيس الأسبق جعفر نميري، على اعتبار أنها المعادلة التي قد تعكس نفسها في صناديق الانتخابات، طبقاً للمنظور التقليدي، بينما تعجز الأحزاب الجديدة والقوى الحديثة عن هذا الوجود.
التحدي الرئيس الذي يواجه هذا الطرح هو افتقاد الشرعية السياسية والشرعية الأخلاقية، بينما يمتلك بعض القدرات لفرض الأمر الواقع، فعلى صعيد التحديات هؤلاء هم رموز نظام قامت ثورة عليه بسبب خطاياه السياسية، وعلى الصعيد الأخلاقي هناك منهم من مارس فساداً مالياً وسياسياً، وفي المقابل هم قوى اجتماعية واقتصادية يتم الركون إليها أحياناً كما فعل رئيس المجلس السيادي عبدالفتاح البرهان في مراحل سابقة، بينما يدعو حالياً الفريق ياسر العطا، عضو المجلس السيادي أيضاً، إلى ضرورة تضمينهم في المعادلة السياسية الراهنة.
ولا يقتصر تجسيد نظام البشير على “حركة المستقبل للإصلاح والتنمية”، لكن هناك تجليات أكثر عنفاً لنظامه منسوبة للإسلاميين تمارس تهديدات واضحة حالياً على الأرض، حيث مارس هؤلاء تلغيم المسار السياسي السوداني في فترة الانتقال، خصوصاً في ملف شرق السودان سواء بإيحاء من المكون العسكري أو استجابة لمصالحهم. وطبقاً لتسريبات صحافية فإن هناك أسماء بعينها، وبعضها من برلمان البشير، انتظمت في التيار الإسلامي العريض، منهم من نسب له في تسجيل مصور تكوين 13 لجنة في آخر اجتماع للتنسيقية العليا لمكونات شرق السودان، لإسقاط “الاتفاق الإطاري” من خلال خطة لإغلاق شرق السودان في اليوم ذاته الذي يتم فيه التوقيع على الاتفاق، ومنهم من بث فيديوهات مصورة، وخلفه ملثمون للغرض ذاته، ومنهم من يستدعي “قوات الدفاع الشعبي” والتنظيمات الطلابية التابعة للجبهة الإسلامية لتكون فاعلة على الأرض.
في ضوء هذا المشهد المعقد لا يبدو كافياً أن يكون حزب “المؤتمر الشعبي” المحسوب على الإسلاميين فقط في صفوف الحراك الثوري الساعي نحو التحول الديمقراطي في السودان، لكن من المطلوب أيضاً المزيد من السعي إلى خلق فرز مطلوب بين الإسلاميين الذين يطرحون مشروعاً سياسياً، وغيرهم الذين يتبنون أساليب عنفية ليس أقلها تهديد رئيس البعثة الأممية فولكر بيرتس بالقتل.
والهدف من هذا الفرز هو تكوين أكبر قدر من التوافقات لحماية “الاتفاق الإطاري” في هذه المرحلة، لكن مطلوب أيضاً من الإسلاميين أصحاب المشروع السياسي المطروح في إطار “حركة المستقبل للإصلاح والتنمية” أن يكونوا أكثر تواضعاً وقبولاً لحقائق جديدة، منها مثلاً أنهم غير مؤهلين لطرح مشروع وطني يكونون قادته بعد أن قادت ممارسات الجبهة القومية الإسلامية إلى ضعضعة دولة السودان بدءاً من الحصول على الحكم بانقلاب عسكري، مروراً بمجازر ما سمي بالصالح العام ضد موظفي الدولة ونخبها السياسية والمهنية والثقافية، ونهاية بممارسة كل أنواع الفساد، حيث يكون من المهم لفت الأنظار إلى أن ثمة تغييراً ديموغرافياً في السودان لن يكون في صالحهم، فالأجيال الشابة غالباً ما تميل ضد مشروعات الإسلام السياسي في المنطقة بعد أن سقطت في امتحان الحكم، وفقدت مشروعيتها الأخلاقية بالفساد المالي، وهو أمر من المتوقع أن يعكس نفسه في صناديق الانتخابات، كما أن المعادلات السياسية القديمة لا يمكن أن تحكم المستقبل.
وبطبيعة الحال لا يمكن التغافل عن العداء الإقليمي لمرجعية الإسلاميين السودانيين باعتبارهم في الأول والأخير محسوبين على تنظيم الإخوان المسلمين الذي مارس خطايا التمكين وممارسة العنف.
اماني الطويل
إندبندنت عربية