عادل عسوم يكتب.. إنها بدر الكبرى
المقال السادس عشر
من (سلسلة مقالات من وحي رمضان 1444).
بعد أن أمر الله نبينا صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة، وتبين صدق الأنصار رضي الله عنهم؛ أمر أصحابه في مكة باللحاق به.
فالهجرة لم تكن مجرد خلاص من تضييق المشركين وتعذيبهم للعديد من المسلمين، انما هناك مشروع لأمة اسلامية، ومنهج حياتي ضخم، ودولة جديدة ستبنى على أرض المدينة، مشروع يحتاج إلى كل طاقات المسلمين.
وكان مشركو مكة يعلمون ذلك، فلم يدعوا احدا يهاجر إلا باشتراط ترك كل مايملك من أموال وحقوق، ولعلي انوه هنا بضعف وعدم صحة المقولة أن الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما هاجر اعلن لأهل مكة عزمه على الهجرة وأن من أراد أن تثكله أمه فليلقه خلف هذا الوادي.
كل من أسلم ضحى بماله وتركه للمشركين وهاجر بدينه إلى المدينة، وبقي ذلك يحز في انفسهم وحسرة، اذ الرجل بطبعه لايقبل أن يغصبه رجل فينتزع منه مايملك عنوة واقتدارا.
وبقيت اموالهم المنهوبة في يد مشركي مكة يتاجرون بها من خلال قوافل يرونها تمر بجوار المدينة لعامين، وما أن علموا باقتراب احدى القوافل التجارية يقودها أبوسفيان؛ طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم السماح لهم باعتراض القافلة لاسترداد جزء من اموالهم المغتصبة فسمح لهم، وخرج منهم ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا، منهم من الأنصار بضع وأربعين ومائتين، ولم يكن معهم إلا فرسان وسبعون بعيرا يتعاقبون على ركوبها، ولكن علم أبو سفيان بخروج المسلمين لمهاجمة القافلة، فما كان منه إلا أن أرسل يستنفر قريشا، وشرع مشركو مكة جميعا في الاستعداد للخروج، تهيأ جل فرسان قريش إن لم يكن كلهم، حيث بلغ عددهم نحوا من ألف مقاتل، ومعهم مائتا فرس، لكن أرسل لهم ابوسفيان موفدا آخر من يخبرهم بأنه استطاع النجاة بالقافلة ولاداعي للتحرك، فإذا بأبي جهل بن هشام رأس الكفر يصيح بالناس وكان جهوري الصوت: لا نرجع حتى نَرِدَ بدرًا فنقيم عليه ثلاثًا، فننحر الجزر، ونطعم الطعام، ونسقي الخمر، وتعزف علينا القِيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا، فلا يزالون يهابوننا أبدًا بعدها، فامضوا.
وفي صبيحة يوم الاثنين السابع عشر من رمضان من العام الثاني من الهجرة
بدأت المعركة بتقدم عتبة بن ربيعة، وتبعه ابنه الوليد وأخوه شيبة طالبين المبارزة، فخرج لهم شباب من الأنصار، لكنهم رفضوا مبارزتهم، وطلبوا مبارزة بني عمومتهم من المهاجرين، فأمر نبينا صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب، وحمزة بن عبد المطلب، وعبيدة بن الحارث رضي الله عنهم بالخروج إليهم، فتمكن أسد الله حمزة من قتل عتبة، وقتل علي شيبة، وأثخن عبيدة والوليد كل واحد منهما صاحبه، ثم مال علي وحمزة على الوليد فقتلاه واحتملا عبيدة، وكان لنتيجة المبارزة أثرها الكبير على المشركين فبدأوا بالهجوم، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه برميهم بالنبل إذا اقتربوا منهم ودنوا، وتدخلت العناية الإلهية فأمد الله سبحانه وتعالى المسلمين بالملائكة، اقرأوا بالله عليكم وصف المعركة:
{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَٱسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ بُشْرَىٰ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا ٱلنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} الأنفال 9-10،
وفي قول الله جل في علاه: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى ٱلْمَلاۤئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعْبَ فَٱضْرِبُواْ فَوْقَ ٱلأَعْنَاقِ وَٱضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} الأنفال 12.
وعن رفاعة بن رافع الزُّرَقِيِّ قال: جاء جِبرِيلُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما تَعُدُّونَ أَهْلَ بَدْرٍ فِيكُمْ؟ قال: (من أَفْضَلِ المُسْلِمِينَ)، قال جبريل عليه السلام: [وَكَذَلِكَ من شَهِدَ بَدْرًا من المَلائِكَةِ].
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه، يعني يوم بدر، فقال: (يا رب إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبدا، فقال له جبريل: خذ قبضة من التراب فارم بها في وجوههم، فأخذ قبضة من التراب فرمى بها في وجوههم، فما من المشركين أحد إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه تراب من تلك القبضة، فولوا مدبرين.
وقال السدي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه يوم بدر: أعطني حصبا من الأرض، فناوله حصبا عليه تراب، فرمى به في وجوه القوم، فلم يبق مشرك إلا دخل في عينيه من ذلك التراب شيء، ثم ردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم، وأنزل الله:
{فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى}.
إنه تمام توحيد الله، فالفعل فعل الله، وإن كانت الإرادة وظاهر الفعل من الإنسان، يقول الله جل في علاه في سورة الأنفال:
{فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ ۚ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ ۚ وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.
إنها معركة بدر الكبرى يا أحباب، وجاء النصر المؤزر من رحم المعاناة، فالمسلمين كانوا الأقل عددا وعتادا: {ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون} آل عمران 123. ومن يتأمل الفرق الشاسع بين عدد وعدة المسلمين وبين المشركين يجد أن النصر كان صعباً للغاية إن لم يكن مستحيلاً!
وأصبح النصر نقطة تحول في التاريخ، فاستحق من شهدها أن يغفر لهم مابقيوا أحياء، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه وأصله في الصحيحين أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: (إنَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ).
والنصر في الحرب، وكذلك النجاح في الحياة، وكذلك الفوز، والغنى، و كل كسب يكسبه الإنسان لايكون إلا بإرادة الله وفضله، وهنا للشيطان باب كبير يلج منه إلى قلوب ووجدان البعض، ليسكرهم بخمر ال(أنا)، فقد قال لقارون انت الذي جمعت الذهب والمال بعلمك وقدراتك، وقال لصاحب الجنة انت الذي غرست اشجارها واخرجت ماءها فكيف تفنى، وقال لفرعون هذه الانهار تجري من تحت اقدامك وانت الرب الأعلى.
لكنهم جميعا فقدوا كل ما ظنوه من كسبهم، وانتهى امرهم إلى زوال.
فلا يطغين أحدنا بكسبه أو يعتدن بفعله، ومن يرتقى بإيمانه يزداد تواضعاً وشعوراً بفضل الله عليه.
لذلك فإن الله عندما قال لنبينا صلى الله عليه وآله وسلم وهو قدوتنا {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ ، وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ}، فإنه جل سبحانه يوحي له بأن تدبير الأمور كلها من عنده تعالى، إنه جل في علاه من وراء الحركة الظاهرة منه بالرمي، وهو جل في علاه من وراء حراك الصحابة بالقتال، ولذلك جاء من بعدها آية أخرى تقول:
{وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا}.
اللهم لارمي إلا رميك، ولا مشيئة إلا رهن مشيئتك، بيدك الأمر من قبل ومن بعد، فاجعلنا لك من المُخْبِتين، واكتب لنا رضاك وحبك ما أحييتنا أو كتبت لنا الموت، إنك الله والرب لا إله إلا أنت، ونشهد أن محمدا نبيك ورسولك، آمنا بقضائك وقدرك، بيدك وحدك علم الغيب فاقسم لنا منه ما يرضينا في دنيانا والآخرة، إنك ولي ذلك والقادر عليه يارحمن يارحيم.
وإلى اللقاء في المقال القادم بحول الله.
صحيفة الانتباهة