دارفور والأزمة في السودان
يمثل إقليم دارفور تاريخياً بتداخلاته الأثنية وامتداداته القبلية الخارجية أحد أهم العوامل التي تؤجج الصراعات داخل السودان وعبر حدوده وفي بعض دول الجوار. إذ تمتد المكونات الاجتماعية للإقليم إلى دول: تشاد، وليبيا، وأفريقيا الوسطى، وجنوب السودان، وهو ما جعل الإقليم رقماً صعباً في أي صراع يشهده السودان أو تشهده المنطقة بشكل عام. فالإقليم أحد محفزات الصراع في السودان والمنطقة ولطالما تم توظيف تركيبته القبلية والعرقية، فضلاً عن موارده وحدوده المفتوحة، في تغذية الصراعات الداخلية أو العابرة للحدود.
وبينما يشهد السودان مواجهات مسلحة بين قوات الجيش وقوات الدعم السريع، فإن الإقليم يعد رقماً مهماً في هذا الصراع، وسيكون له تأثيراته المهمة على مخرجاته في المستقبل، فكيف ذلك وما هي حدود هذا التأثير؟
طبيعة الأزمة في السودان وتعقيداتها
بدأت الأزمة في السودان في منتصف أبريل 2023 بعد عجز المكون العسكري عن تحقيق توافق بشأن خطة الانتقال التي صاغتها الثلاثية، ولاسيما ما يتعلق بدمج قوات الدعم السريع في الجيش السوداني. إذ أدى الخلاف إلى محاولة قوات الدعم السريع الاستيلاء على السلطة بالقوة، وهو ما واجهه الجيش بوصفه “تمرداً”، وعلى هذا اندلع القتال بين الجانبين، ووصل إلى محيط القيادة العامة، ومطار الخرطوم الدولي، ومواقع أخرى عسكرية متفرقة حول العاصمة، إذ حاولت المليشيا السيطرة على بعض المواقع العسكرية المهمة.
ويعتبر الجيش السوداني الطرف الأهم في الصراع الحالي، لأنه وفقاً للدستور القوة العسكرية النظامية التاريخية التي لعبت دوراً بارزاً في تاريخ السودان الحديث، ومخول له حماية البلاد، وهو جامعة وطنية لهويات السودان دون تمييز عبر تاريخه. أما مليشيا الدعم السريع فهي مكون من مرتزقة وعناصر غير نظامية، يجمعها انتماءات قبلية وبعض تكويناتها من دول جوار السودان وتحديداً من قبائل دارفور في غرب السودان والممتدة إلى دول الجوار، وتاريخ هذه القوات ارتبط بنظام الرئيس السابق عمر البشير وبالحرب في دارفور، وقد دخلت تلك الحرب بعد أن وجدت غطاءاً سياسياً من القوى السياسية والمدنية، في محاولة فاشلة منها للانقلاب والتمرد ضد الدولة.
وبينما ما يزال الصراع محتدماً ووسط الفوضى التي أعقبت المواجهات بين الجانبين، يحاول طرفا القتال السيطرة على العاصمة، من أجل فرض شرعية جديدة. ولكن بعد العمليات العسكرية على مدار أكثر من شهر ونصف، ظهر التفوق النسبي للجيش السوداني من خلال العمل على مسارين: أولهما، تكتيكي، حيث قام الجيش بتدمير جميع المرتكزات والمقرات التابعة لمليشيا الدعم السريع حول الخرطوم من خلال قطع طرق الإمدادات اللوجستية. وثانيهما، استراتيجي، من خلال عدم قطع شبكة الإنترنت واستدراج عناصر مليشيا الدعم السريع القادمة من دارفور وأفريقيا الوسطى وليبيا وتدمير أرتالها التي كانت في طريقها لتقديم الدعم.
ومن خلال تلك الاستراتيجية العسكرية، فقدت المليشيا كثيراً من مقاتليها المرتزقة، وأصبحت تقاتل من داخل الأحياء السكنية وبدأت في استخدام المدنيين دروعاً بشرية، بالإضافة إلى احتلالها للعديد من المستشفيات، وأصبح الجيش يسيطر على أجزاء كبيرة من العاصمة الخرطوم وبات القتال يدور حالياً في الأطراف، وبعد أن كانت المليشيا فى وسط العاصمة، تحاول حالياً الخروج إلى دارفور كملاذ آمن.
دور إقليم دارفور في الصراع
تقف أغلبية القبائل الأفريقية في صف دعم الجيش السوداني، للعديد من الاعتبارات التى تتعلق بموقفها من مليشيا الدعم السريع في الفترة من عام 2003 وحتى عام 2009، عندما ارتكبت مذابح وانتهاكات ضد القبائل الأفريقية، فضلاً عن أن قسماً كبيراً من أبناء الرزيقات بقيادة الأمير محمد إبراهيم ماديبو، يقف ويساند الجيش فى المعركة. فيما أعلنت قبيلة المسيرية القَسَم للدفاع عن الحق وشرعية الجيش السوداني، وذلك من خلال الزيارة التي قام بها بعض أبناءها إلى الفرقة 16 مشاة التابعة للجيش السوداني.
وبهذا، من الواضح أن الحركات المسلحة في دارفور تقف وتدعم الجيش السوداني، فى هذه الأزمة، بالإضافة إلى بعض المكونات العربية والأفريقية داخل الإقليم بشكل عام. فضلاً عن جميع الفصائل السودانية المسلحة التى وقعت على اتفاق جوبا للسلام، كما تقف ورشة القاهرة للكتلة الديمقراطية بمكوناتها داعمة للجيش السوداني، من مبدأ الشراكة ومواجهة التحديات الأمنية في السودان.
غير أن بعض القبائل العربية وجزءاً من مكونات إثنية الرزيقات تدعم مليشيا الدعم السريع، وذلك بسبب انخراط نسبة كبيرة من أبنائهم فى صفوفها، ولكن بصورة كبيرة معظم القبائل الأخرى سواء كانت أفريقية أو عربية لا تدعم مليشيا الدعم السريع.
وبينما ظهرت بعض مظاهر الانفلات مع بداية الصراع، لكن سرعان ما باتت جميع ولايات دارفور الخمسة تحت سيطرة الجيش، وجميع الولاة يعملون بخطط وفق استراتيجية وضعها الجيش، لاسيما فيما يتعلق بتسليم بعض الأفراد من مليشيا الدعم السريع للجيش. أما فيما يخص المكونات الأخرى من رجالات الإدارات الأهلية ومشايخ نظار القبائل فيقفون جنباً إلى جنب مع الجيش، حيث يركزون على أهمية الولاء للوطن بعيداً عن القبلية والعرقية.
لكن ما يزال الإقليم بالنظر إلى مكوناته المتصارعة وحدوده المفتوحة والاختراقات الخارجية له من جانب دول الجوار ساحة خلفية مهمة مؤثرة على الصراع. فالسلاح المتدفق من دول الجوار مثل ليبيا وتشاد وأفريقيا الوسطي يمثل معضلة حقيقية تواجه الحكومة المركزية بصفة عامة وحكومات الولايات الخمسة بشكل خاص.
إضافة إلى المرتزقة الذين يتدفقون من الدول الأفريقية مثل النيجر وموريتانيا وتشاد وأفريقيا الوسطي ونيجيريا، حيث هناك شبكة تديرها قوى إقليمية ودولية لديها أجنداتها في السودان، ودعمتها مليشيا الدعم السريع عبر استخراج بطاقات هوية سودانية لهم طوال الفترة السابقة سواء كان ذلك في عهد البشير أو حتى فى ظل حالة السيولة الأمنية بعد الثورة السودانية. كما أن الإقليم بات ساحة مهمة لقوات فاغنر الروسية التي تقدم الدعم والتدريب لمليشيا الدعم السريع.
وقد مارس المرتزقة من الحركات المسلحة فى دارفور دوراً كبيراً في الأزمة الحالية بعد عودتهم من ليبيا وانضمامهم لمليشيا الدعم السريع، مما ساهم في تأجيج الصراعات والتوترات ذات الطابع القبلي في إقليم دارفور، حيث ساهم المرتزقة السودانيون في احتدام صراع آخر على عائدات التنقيب عن الذهب.
انعكاسات مختلفة
بعد اندلاع الثورة السودانية، نال إقليم دارفور حظاً أوفر من النصيب فى المشاركة السياسية، خلال الفترة الانتقالية، ولم يعد الإقليم كما كان فى الماضي يعاني من تهميش وعدم مشاركة في السلطة والثروة، حيث منح اتفاق جوبا للسلام 40% لمكونات دارفور وهي أعلى مشاركة في السلطة. كما تم تطبيق التمييز الإيجابي لأبناء دارفور المفصولين تعسفياً بسبب الصراع في دارفور خلال عهد البشير وتمت إعادتهم إلى المؤسسات الخدمية والمدنية، ومن ثم تم تصحيح الأوضاع، كما تم تخصيص 20% من الوظائف العليا لأبناء دارفور.
لكن الصراع بين الجيش والمليشيا فى الخرطوم انعكس بصورة كبيرة على ولايات دارفور بشكل عام وغرب دارفور بشكل خاص، فى ظل حالة الفراغ الأمني الكبير الذي تعيشه ولايات دارفور الخمسة بعد انسحاب الجيش والشرطة من بعض المرتكزات، حيث تقاتل مليشيات إثنية الرزيقات للاستيلاء على الأراضي والموارد في دارفور كفرصة سانحة لتحقيق ذلك والاستفادة من القتال الدائر في الخرطوم.
كما سعت مليشيا الدعم السريع لتنفيذ عمليات تجنيد في دارفور بغرض تعزيز سيطرتها على الإقليم فى حالة خسارتها الحرب في الخرطوم، مما يمهد الطريق إلى حرب واسعة بين المكونات الإثنية في دارفور، فضلاً عن تصاعد المخاوف من اندلاع حرب أهلية مرة أخرى، حيث أن الوضع الأمني في الخرطوم يشكل بدرجة كبيرة تهديداً لأهل دارفور، سواء كان في حالة استمرار الصراع المسلح، أو فيما يتعلق بمرحلة ما بعد سحق التمرد في الخرطوم، مما يمكن أن يدفع مليشيا الدعم السريع إلى العودة إلى مناطق النشأة والتكوين في دارفور.
فضلاً عن ذلك، سعت بعض الإثنيات فى دارفور إلى توظيف تلك الأحداث لتحقيق مكاسب سواء كانت بدوافع انتقامية لتصفية حسابات قديمة، أو عبر الانخراط في الحرب بغية شد الأطراف وتخفيف الضغط على مليشيا الدعم السريع، وهو الأمر الذي ينذر باندلاع صراعات داخل ولايات دارفور الخمسة تتعلق بتصفية الحسابات المتراكمة بين القبائل، حيث لم تتعافى ولايات دارفور من عقدين من الإبادة الجماعية بعد.
صلاح خليل – باحث في العلوم السياسية
مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية