تقديرات بالمليارات .. خسائر السودان الاقتصادية بسبب “الاقتتال”
يعيش السودان أزمة “معقدة ومتشابكة” نتيجة الاقتتال بين الجيش والدعم السريع، ما تسبب في تأثر كافة مناحي الحياة، ووسط غياب معلومات دقيقة عن “التداعيات الاقتصادية للأزمة”، يكشف خبيران لموقع “الحرة” عن ملامح الخسائر في البلد التي تعد أحد أكثر دول العالم فقرا.
وأثر الاقتتال المستمر منذ منتصف أبريل بين الجيش بقيادة، الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، وبين قوات الدعم السريع، بقيادة محمد حمدان دقلو الشهير بـ”حميدتي”، على كل مناحي الحياة، وأدى إلى نزوح 2.2 مليون شخص، وتسبب في مقتل أكثر من 1800 شخص، وفق منظمة “أكليد” غير الحكومية.
وأوقف القتال حركة الاقتصاد، ودفع بملايين السودانيين في هاوية الجوع ودفعهم للاعتماد على المساعدات الخارجية، وتسبب في معاناة السكان من نقص في المواد الغذائية والخدمات الأساسية، وأدى لتدمير النظام الصحي بالبلاد.
موارد هائلة واقتصاد “منكوب”
لا توجد إحصاءات رسمية تكشف “حجم الخسائر” نتيجة الاقتتال، لكن اقتصاد السودان، الذي يعد أحد أفقر بلدان العالم، “منكوب” بالفعل منذ عدة عقود.
وبعد عشرين عاما من العقوبات الدولية، عاد السودان إلى المجتمع الدولي إثر سقوط، عمر البشير في العام 2019، ولكن انقلاب العام 2021، الذي قام به الجنرالان المتحاربان اليوم، أدى إلى وقف المساعدات الدولية البالغة 2 مليار دولار التي حصلت عليها الخرطوم خلال العامين السابقين.
وفقدت الدولة السودانية في يوم واحد 40 بالمئة من دخلها “هي قيمة المساعدات الدولية”، فيما كانت تعاني بالفعل من الفساد ومن أثار العقوبات الدولية واستقلال جنوب السودان في العام 2011 الذي أدى إلى خسارة الخرطوم تقريبا كل حقول النفط.
ويُعد السودان من أكبر الدول العربية والأفريقية، من حيث المساحة، ويقدر عدد سكانه بـ45 مليون نسمة، ويوجد بالبلاد ملايين الأراضي الزراعية الخصبة والأنهار الجاري، وتمتلك واحدة من أكبر الثروات الحيوانية في العالم، وهي من أغنى الدول العربية والأفريقية من حيث الثروات الزراعية والحيوانية والمعدنية، وفقا للباحث في الاقتصاد السياسي، أبو بكر الديب.
لكن رغم تلك “الموارد الهائلة” فإن الاقتصاد السوداني يعاني من أزمات هيكلية خطيرة وسوء إدارة جعلته لا يستطيع إنتاج المواد الأساسية، حسب حديثه لموقع “الحرة”.
ويوضح الباحث بالاقتصاد السياسي أن أزمات السودان الاقتصادية تفاقمت خلال السنوات الماضية بسبب “الارتفاع المتواصل في معدلات البطالة والتضخم وانهيار العملة وتآكل الأجور وانعدام الخدمات”.
ورغم كل الثروات الطبيعية والموارد الكبيرة في السودان، فإنه يعاني اقتصاديا “بسبب تلاحق الأزمات وتعاقب الحروب والصراعات الطائفية والعرقية المسلحة”، التي ساءت معها الأحوال المعيشية للمواطن.
ويرجع الديب تلك المشكلات إلى “الفساد وسوء إدارة الموارد وإهمال الإنتاج وغياب الخطط الحكومية السليمة وتغييب سلطة القانون”، قبل أن يأتي الاقتتال الحالي ليزيد الطين بله.
خسائر ما بعد “الاقتتال”
يشير الخبير الاقتصادي السوداني، محمد الناير، إلى “عدم وجود تقديرات دقيقة لحجم خسائر الاقتصاد السوداني بعد مرور شهرين من الاقتتال”.
وحسب تصريحاته لموقع “الحرة” فيتطلب تحديد ذلك إجراء “حصرا دقيقا لكافة خسائر القطاعات المختلفة بعد انتهاء الاقتتال”، لكنه يقدرها مبدئيا بـ”مليارات الدولارات”.
ويوضح أن الاقتتال محصور في مناطق محددة بالسودان، وبالتالي فإن التقديرات الحالية تأتي بناءً على “منظور اقتصادي يستند للرقعة الجغرافية للاشتباكات”.
وبدأ القتال بين الجيش وقوات الدعم السريع في قلب الخرطوم، واتسع نطاق الاشتباكات منذ ذلك الحين ليطال مدنا رئيسية في غرب البلاد، وشهدت مدينة الجنينة بغرب دارفور أسوأ حلقات تمدد القتال، حيث رصد نشطاء مقتل 1100 شخص وقالت الأمم المتحدة إن 150 ألفا فروا إلى تشاد.
الذهب “المتضرر الأكبر”
يعد السودان ثالث أكبر منتج في إفريقيا، وصدرت البلاد رسميا 34.5 طنا من الذهب تجاوزت قيمتها 2 مليار دولار، العام الماضي، حيث يعد المعدن النفيس أكبر مصدر للدخل في البلاد، وفقا لوكالة “بلومبرغ”.
ويوضح الناير أن السودان يمتلك 30 معدنا على رأسها الذهب ومعادن نفيسة أخرى.
ويشير الخبير الاقتصادي السوداني إلى أن “صادرات السودان تبلغ 4.2 مليار دولار سنويا، ونصفها من ذهب الذي يصدر معظمه عبر مطار الخرطوم”.
ومطار الخرطوم “حاليا متوقف بعد الاشتباكات”، لكن مواقع إنتاج الذهب لم تتأثر لكونها في مواقع لم تشهد نزاعات أو مواجهات، وفقا لحديثه.
ويمكن تصدير الذهب عبر ولاية البحر الأحمر وذلك من خلال مطار بورتسودان، أو باستخدام السفن البحرية بميناء المدينة، وفقا للناير.
ويرى أن توقف التصدير “ليس سلبيا”، ويقول “إذا اشترت الدولة المنتجات وحفظتها كاحتياطي فذلك يصب في صالح الاقتصاد الوطني”.
ومن جانبه يشير أبو بكر الديب إلى السودان أحد أهم منتجي الذهب في القارة الأفريقية والثالث عشر بين البلدان المنتجة للذهب في العالم وتصل احتياطيات البلاد من الذهب إلى 1550 طنا.
وبسبب خروج مطار الخرطوم من الخدمة فقد تم حرمان البلاد من منفذ تجاري حيوي، ويتسبب ذلك في خسائر تصل لنحو 3 مليار دولار نتيجة توقف “عائدات صادرات الذهب”، حسب الديب.
ويشير الباحث بالاقتصاد السياسي إلى أن طرفي الصراع يحاولان السيطرة على “المعدن الأصفر”، ويتم “تهريب المعدن النفيس”، إلى الخارج لينفق منها على “الاقتتال”.
ويقدر الديب قيمة حصيلة إنتاج الذهب في السودان بالإمكانات الحالية إلى نحو 5.5 مليار دولار سنويا، مرجحا نهب 4 مليارات دولار منها لصالح الأطراف المتصارعة.
الصمغ العربي
يُستخلص الصمغ من عصارة صلبة مأخوذة من شجرة “الأكاسيا” وهو مستحلب ذو أهمية كبيرة يُستخدم في صناعات شتى، من المشروبات الغازية إلى العلكة مرورا بالمستحضرات الصيدلانية.
والسودان في صدارة البلدان المنتجة للصمغ، ويستحوذ على حوالي 70 بالمئة من تجارته العالمية، بحسب الوكالة الفرنسية للتنمية.
ويمتد حزام الصمغ العربي في السودان على مساحة تبلغ حوالي 500 ألف كيلومتر مربع من إقليم دارفور في غرب البلاد على الحدود مع تشاد، إلى ولاية القضارف في شرقها قرب الحدود مع إثيوبيا.
وقبل الاقتتال كان خمسة ملايين شخص يعتاشون من الصمغ العربي، لكن الاشتباكات تسبب في انخفاض أسعاره إلى النصف، وغادر الأجانب الذين كانوا يشترونه البلاد، بينما تقع مخازنه في وسط المعارك، وفقا لوكالة “فرانس برس”.
ويتركز إنتاج الصمغ العربي في الخرطوم حيث المعارك ضارية، ومنها يُصدر الى الخارج، ويُنتج جزء آخر منه في إقليم دارفور حيث تدور معارك أيضا.
ويشير الديب إلى أن “السودان أحد أكبر بلدان العالم إنتاجا للصمغ العربي”، لكن ذلك لم يعود على المواطن السوداني بالنفع.
ويتفق معه الناير الذي يقول ” لم نحسن استخدام الصمغ العربي بشكل كبير رغم عدم وجود مثيلا له في العالم من حيث الخصائص”.
ويوضح الخبير الاقتصادي السوداني أن العائد من الصمغ العربي ما بين 150 إلى 200 مليون دولار، ويقول “يفترض أن يكون الرقم بمليارات الدولارات”.
لكنه يؤكد أن قطاع الإنتاج لم يتأثر بـ”الاقتتال”، مشيرا إلى أن تأثر “أجزاء قليلة من حزام الصمغ العربي” بالاشتباكات.
قطاع الزراعة
يوضح أبوبكر الديب أن الزراعة تشكل أكبر قطاع اقتصادي في السودان، حيث تمتلك البلاد 200 مليون فدان أراضي زراعية خصبة و11 نهر جاري٬ ويعيش حوالي 80 بالمئة من السكان في المناطق الريفية.
ومن جانبه يؤكد محمد الناير أن العاصمة السودانية تشكل قرابة 5 بالمئة من إجمالي قاعدة الإنتاج الزراعي بالبلاد.
ويشير إلى أن ما يزيد عن 85 بالمئة من القطع الزراعي السوداني يعمل بصورة طبيعية في مجال الإنتاج.
ويقول “هناك 16 ولاية مستقرة، باستثناء الخرطوم وغرب دارفور”، لكنه يشير إلى وجود “عقبات تواجه القطاع الزراعي بعد اندلاع الاقتتال”.
والخرطوم هي أكبر ولاية استهلاكية بالنسبة للقطاع الزراعي، وعندما تفقد هذا السوق يعرض المنتج في الولايات الأخرى بسعر أقل، ما تسبب في خسائر خلال الفترة الأخيرة.
وحسب الناير فإن العقبة الثانية تتعلق بالتجهيز أو الإعداد للزراعة بتوفير “البذور والسماد” وغيرها من مدخلات الإنتاج.
ويوضح أن قطاع الزراعة قد تأثر بسبب “انخفاض الأسعار، ومشكلات تتعلق بالتسويق، وتوفر مدخلات الإنتاج الزراعي”.
وفيما يتعلق بالتصدير فإن الموانئ في ولاية البحر الأحمر “أمنة”، وبالتالي لم تتأثر صادرات البلاد من المنتجات الزراعية، حسب الخبير الاقتصادي السوداني.
قطاع الثروة الحيوانية
السودان بما لديه من ثروة حيوانية يعد السادس على مستوى العالم بتعداد يتجاوز 140 مليون رأس، ويساهم هذا القطاع بـ 20 بالمئة من الدخل القومي للبلاد من العملة الصعبة، حسب “تصريحات سابقة لوزير الثروة الحيوانية”.
ومن جانبه يشير محمد الناير إلى امتلاك السودان 110 مليون رأس من الثروة الحيوانية، حيث يعتمد هذا قطاع الثروة على الاستهلاك الداخلي والتصدير.
لا يوجد مشكلة بالإنتاج، لأن نسبة 97 بالمئة من الثروة الحيوانية تقريبا تتركز في الولايات الأخرى بعيدا عن الخرطوم، ولذلك فهي لم تتراجع “انتاجيا” بسبب الاقتتال، لكن تتأثر بكون العاصمة “أكبر سوق استهلاكي”، وفقا لحديثه.
ومازال التصدير للخارج “مستمرا برا وبحرا”، وبالتالي القطاع لم يتأثر بصورة كبيرة، نتيجة الاقتتال، وفقا للخبير الاقتصادي السوداني.
وخلال حديثه يقدر الناير “خسائر قطاعي الزراعة والثروة الحيوانية ” بمليار دولار، مرجعا ذلك إلى “الجوانب الاستهلاكية والتسويقية وليس الإنتاجية”.
القطاع الصناعي
يعاني قطاع الصناعة من تعقيدات قبل الاقتتال فيما يخص إشكالية “الطاقة والقوى المحركة وارتفاع تكلفة الإنتاج”، حسب الناير.
ويشير إلى “عدم وجود كهرباء كافية لتدوير عجلة الإنتاج بصورة كاملة، ونقص المواد الخام لبعض المنتجات”.
ويرى أن التعقيد الأكبر بعد اندلاع الاقتتال يتعلق بالدمار نتيجة أعمال “النهب والسلب والتخريب”، مؤكدا أن “قطاع الصناعة هو أكبر متضرر من الاقتتال”.
ويقدر الخبير الاقتصادي السوداني خسائر القطاع ما يتراوح بين 2 إلى 3 مليارات دولار تقريبا.
ويتفق معه أبوبكر الذي يؤكد أن أكثر من 30 بالمئة من المصانع السودانية خارج الخدمة.
ويشير الباحث بالاقتصاد السياسي كذلك إلى خروج أكثر من 900 منشأة تعمل في مجال الصناعات الغذائية والدوائية ومختلف المجالات الصناعية في الخرطوم عن الخدمة تماما بعد التخريب الكبير الذي تعرضت له.
حسب الديب فإن قيمة الخسائر المباشرة والغير مباشرة التي لحقت بقطاعي الصناعة والمصارف، تقدر بنحو 5 مليارات دولار وسط توقعات بأن ترتفع الخسائر بشكل كبير إذا لم يتوقف الاقتتال.
قطاع السياحة
يرتبط نجاح القطاع السياحي بالاستقرار السياسي والأمني، وهو يعاني بالفعل قبل الاقتتال، ولم يحقق سوى أقل من مليار دولار سنويا، وفقا لمحمد الناير.
ولم استغلال القطاع بالشكل الأمثل سوءً بـ”إنشاء البنية التحتية التي تدعمه، أو توفير الاستقرار الأمني والسياسي الذي يستطيع جذب السياح”، حسب حديثه.
ويؤكد أن خلال شهرين من الاقتتال فإن “قطاع السياحة معطل بالكامل”.
دمار البنية التحتية
أثر النزاع سلبا على البنية التحتية للسودان الذي كان يعاني أصلا على قبل بدء المعارك، حسب “فرانس برس”.
ويرى محمد الناير أن التدمير الواقع بالبنية التحتية بسبب أعمال النهب والسلب “في قلب الخرطوم”.
وتقدر خسائر البنية التحتية ما بين مليار إلى 2 مليار دولار، وفقا للخبير الاقتصادي السوداني.
تداعايات طول أمد “الاقتتال”
حسب تقديرات الديب فإن السودان خسر ما يقدر بـ 15 مليار دولار منذ اندلاع الاشتباكات وحتى يومنا هذا، متوقعا “زيادة تلك الخسائر إذا استمر الاقتتال”.
وحذر أبوبكر الديب من اتساع الحرب واستمرارها سيكبد الاقتصاد السوداني وخزينة الدولة خسائر كبيرة، بعدما أدى الاقتتال الحالي إلى أزمة اقتصادية طاحنة بالسودان، وقد تمتد آثارها إلى 7 دول مجاورة للسودان و13 دول قريبة منها، بعدد سكان لا يقل عن 750 مليون نسمة.
ومن شأن تصاعد الاقتتال الحالي أن يدفع الناتج المحلي الإجمالي للتراجع، وتعطل عمل برنامج الغذاء العالمي، والإضرار بملايين السودانيين، فضلا عن انهيار البنية التحتية للدولة، وشل كافة المرافق وتوقف برامج الدعم الإنساني مع الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات مما يهدد بأزمة جوع كبيرة، حسب تحذيرات الديب.
وسوف تنعكس تلك الاشتباكات على الاقتصاد السوداني بنتائج شديدة السلبية على مستوى المؤشرات الاقتصادية الكلية، وكذلك على صعيد مستوى المعيشة للشعب الشقيق، الذي يرزح تحت وطأة الضغوطات وتداعيات الأزمات المحلية والدولية وزيادة معدلات الفقر والتضخم وانقطاع التيار الكهربائي ونقص إمدادات المياه.
ويشير إلى إمكانية هروب أو خروج ما يفوق 3 مليارات دولار من الاستثمارات الأجنبية المباشرة من البلاد خلال الأيام المقبلة، وما لا يقل عن 20 مليار من دول جوار السودان، حيث تسعي الاستثمارات إلى الاستقرار السياسي والاقتصادي، وفقا لتعبيره.
ومن جانبه يرى محمد الناير أن التقديرات الخاصة بالخسائر منذ اندلاع الاشتباكات “مبالغ بها” لكنه يقدرها بمليارات الدولارات.
وإذا امتد أمد الاقتتال على المدي المتوسط والبعيد ستظهر تداعيات اقتصادية “متزايدة وحادة”، حسب الخبير الاقتصادي السوداني.
“الحرة”