رأي ومقالات

تأملات ومقارنات بين دويلات 60 في غرب أفريقيا ودولة 56 .. !!

تأملات ومقارنات بين دويلات 60 في غرب أفريقيا ودولة 56 .. !!
دويلات 1960م في غرب أفريقيا التي لا يفكر أحد في إسقاطها !!
ما لم يقله الدرديري محمد أحمد في مقالته تشريقة عرب الشتات : لماذا هم عرب شتات في غرب أفريقيا وأبناء عمومتهم في السودان ليسوا عرب شتات ؟ وما هو المعنى الحقيقي حسب فهمنا لكلمة شتات ؟!
نستلف ونسقط في هذه التأملات مصطلح دولة 56 الذي طالما دندنوا به دون أن يقدموا تفسيرا واضحا له ، فتارة يكون الحديث عن صعوبات يجدونها في القبول في الكلية الحربية أو الخدمة المدنية ، وما إلى ذلك من اسطوانات سيطرة النخب والجلابة ، ثم نسقط مصطلح دولة 56 على مجموعة دول غرب أفريقيا من مستعمرات فرنسا سابقا والتي نركز فيها على الجارة تشاد التي نالت استقلالها في 1960م فنطلق عليها مجتمعة : دولة 60.
في أوائل الستينات من القرن العشرين 1960م نالت مستعمرات غرب أفريقيا الفرنسية استقلالها تباعا : تشاد ، النيجر ، مالى ، أفريقيا الوسطى ، الكاميرون ، الكونغو برازافيل.. ألخ.
إلا أن تلك الاستقلالات كانت ولاتزال مكبلة بمعاهدات فرضتها فرنسا ، وبالمناسبة فإن بريطانيا فعلت نفس الشيئ في مستعمراتها الأفريقية حين كانت تستدعي إلى لندن وفودا من حركات النضال الأفريقية وتشارطهم بشروطها على الاستقلال ، وهذا موضوع آخر ليس مجاله الآن إذ تركيزنا على جارتنا الغربية التي ظلت تؤثر علينا ونؤثر عليها لعقود.
وهنا نطرح السؤال : هل نالت دولة 56 السودانية إستقلالا مشروطا من بريطانيا مثلما نالت دولة 60 في غرب أفريقيا استقلالا مشروطا بشروط ؟
حسب علمي : لا ، والسبب هو أن السودان من 1898م حتى 1955م لم يكن مستعمرة بريطانية صريحة كالمستعمرات البريطانية الأخرى مثل نيجيريا ويوغندا وكينيا وغامبيا … إلخ.
لقد عصم نظام الحكم الثنائي Condominium السودان من ذلك فوجد السودانيون أنفسهم في حالة من النضال السياسي الدبلوماسي القانوني تلاعبوا فيه بين الحبلين المصري والبريطاني حتى نالوا استقلالهم في 1956م.
ولهذا صار السودان خارج رابطة الكومونولث Commonwealth التي جمعت بين مستعمرات بريطانيا السابقة ، وبغض النظر عن اختلاف التقييم بيننا كسودانيين حول جدوى ذلك الابتعاد من رابطة الكومونولث إلا أنه يعكس ولا شك درجة من حرية الإرادة السياسية.
في دولة 60 الغرب أفريقية ذات الاستقلال المشروط لا تزال الدولة المستعمرة السابقة تمسك بتلابيب الإقتصاد ، وقد فصلنا في منشورات سابقة كيف أن تلك الدول الغرب أفريقية لا تملك بنوكا مركزية مستقلة ولا تصدر كل منها عملتها الخاصة ولكنها تستخدم عملة مشتركة تطبعها لها فرنسا وتتم إدارة حركة تجارتها الخارجية من صادرات وواردات من خلال البنك المركزي الفرنسي في باريس.
هذا في الوقت الذي يملك فيه سودان 56 بنكه المركزي الخاص وعملته الخاصة ومطبعة عملته ودار سك نقوده المعدنية ويغير في تصميماتها بل وأسمائها متى شاء فتارة جنيه وتارة دينار ثم جنيه إرضاءا لغلواء حركة إنفصالية توهم سياسيينا أنهم سيرضونها وهيهات.
ولا تمسك الأم المستعمرة السابقة لدولة 60 بتلابيبهم من خلال تملك حركة النقد إدارة وطباعة وحسب بل من خلال نخب محلية منتقاة من أبناء بعض القبائل الذين تمت تربيتهم وتأهيلهم وتشريبهم اللغة والثقافة الفرنسية وتلك النخب تكون تارة من أبناء القبائل التي كانت وثنية واعتنقت الكاثوليكية أو من أبناء القبائل الأفريقية التي كانت أقل بأسا وشراسة من القبائل العربية في المقاومة القتالية والثقافية للغزو الزاحف من سانت لويس في السنغال بدءا من 1805م ، ولهذه النقطة تحديدا سنعود لاحقا لنشرح كيف تم تشكيل الجنجويد كنمط من البشر.
ولذلك صارت اللغة الفرنسية لغة التعامل والخطاب الرسمي الذي يخاطب به رؤساء تلك الدول شعوبهم وبرلماناتهم وهلمجرا.
ستين (60) عاما بالمتوسط منذ أن نالت دويلات غرب أفريقيا الفرنسية استقلالاتها الصورية وتقلبت على مدى ستة عقود (العقد = 10 سنوات) في حقب متتالية من حكومات النخب الوطنية الفرانكفونية مدنية كانت أم عسكرية ولا يزال مطمح شباب تلك الدول الوصول إلى الجنة الفرنسية ولو بركوب قوارب الموت عبر البحر الأبيض المتوسط هروبا من الفقر الممنهج الذي لا يستطيعون منه فكاكا.
في أكتوبر 2020م قدمنا في سلسلة من ثمان مقالات شرحا متسلسلا تفصيليا عن السيطرة الاقتصادية التي تمارسها فرنسا على مستعمراتها السابقة في غرب أفريقيا ، وتجد هنا رابط المقال الأول وبه رابط للمقال الثاني وهكذا دواليك حتى المقال الثامن :
https://m.facebook.com/story.php?story_fbid=2386053801689089&id=100008534765794&mibextid=Nif5oz
نموذج دولة 60 في تشاد والثورات المتعاقبة ولكنها داخل بيت الطاعة الفرنسي :
في 1960م نالت تشاد علما وبساطا أحمر ورئيسا مسيحيا في بلد 90% من سكانه مسلمين ، وبعد 5 أعوام أطيح بفرانسوا تمبلباي ومن يومها تتالت ثورات القبائل التي تطيح كل واحدة منها بحكم القبيلة السابقة ، قرعان ، زغاوة ، عرب ، ألخ.
وقد يعترض معترض على وصف الثورات التشادية المتتالية بثورات القبائل.
الحقيقة أن دول 60 تم تركيبها من سلطنات كانت مستقلة أو شبه مستقلة هي :سوكوتو ، وداي وباقرمي وبرنو وأخريات لا تسترجعها ذاكرتنا ولا يسع المجال لذكرها.
تلك السلطنات والممالك الأفريقية كانت بالأساس سلطنات قبائل تقوم على قبيلة حاكمة ومهيمنة وقبائل تابعة تدور في فلكها ، وتم تحطيم تلك السلطنات بالآلة العسكرية للدول الأوروبية المتكالبة على أفريقيا.
ولكن جميع تلك الثورات التشادية وحكوماتها المتعاقبة ظلت حبيسة داخل بيت الطاعة الفرنسي بلغته وثقافته وعملتها السيفا المطبوعة في باريس واقتصادها الذي يدار من باريس وعقود الإذعان لموارد باطن الأرض.
لا حاكم جديد يحاول الخروج من سجن عملة الفرنك سيفا المشتركة ، وكل حاكم جديد يتحول هو وقبيلته إلى نخبة حاكمة تسيطر على الوظائف والمال مع بعض الزينة والرتوش من القبائل الأخرى ونتيجة لذلك يبدأ الحنق في التراكم لدى الآخرين فيبدأون ثورة جديدة من أجل حرية وعدالة ومساواة وهمية لا ولن تحدث.
عرب الشتات في دويلات 60 وأبناء عمومتهم في سودان 56 !
المقال المنتشر للدرديري محمد أحمد عن تشريقة عرب الشتات حاول أن يضع حدا فاصلا بين عرب الشتات وأبناء عمومتهم عرب دارفور قوامه التباعد في الثقافات والسلوكيات لتداخل هؤلاء هنا مع غيرهم من مكونات المجتمعات السودانية ، ولكن هذا تفسير ناقص تجاهل حقيقة أن قبائل عرب غرب أفريقيا غالبا مع بعض قبائل البدو الرحل مثل الأمبررو ظلوا على الدوام ضحايا لسياسات وإجراءات قامت بتحويلهم إلى مواطنين بدون Stateless لا يملكون ولا يتمكنون من استخراج وثائق اثبات الشخصية بدءا من شهادة الميلاد مرورا بشهادة الجنسية ثم البطاقة الشخصية.
إن عدم استخراج هذه الوثائق الأساسية يغلق الباب أمام استخراج جواز السفر passport ويغلق أبواب الولوج لنيل خدمات الصحة والتعليم الحكومي والوظائف الحكومية والرخص التجارية والقدرة على شراء وتملك المنازل وعدد ما تشاء من حقوق المواطنة والحقوق الإنسانية.
ويتزاوج (البدون) ويلدون أطفالا (بدون) وتتعاقب داخلهم أجيال (البدون) ويتراكم في مجتمعاتهم الجهل والغبن والقابلية للاستغلال.
والمواطن (البدون) في أية بلد لو جئته وأخبرته عن إمكانية الحصول على أوراق ثبوتية من أية بلد في العالم فسيكون لديه استعداد عال جدا للقبول والرحيل بهدف الخروج من بئر العدمية التي هو محبوس فيها منذ عشرات السنين هو وأطفاله وأجياله التي سوف تأتي ولو كانت الجنسية الموعودة جنسية بلاد الواق الواق.
إقرأ هنا مقال تعريفي عن مشكلة (البدون) في دولة الكويت ومحاولة حل المشكلة بتوفير جنسيات لهم من دولة جزر القمر :
https://www.aljazeera.net/…/%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%AF%D9…
هكذا ومن خلال مأساة (البدون) تمت صناعة وتشكيل أجيال الجنجويد عبر حقب من التهميش وتراكم الجهل والحنق وانسداد الأفق ، فهل عانى أبناء عمومتهم في سودان 56 من معاملة شبيهة ؟! ونردف على هذا السؤال سؤالا ثانيا كإجابة : وهل مصطلح (البدون) معلوم أساسا في الثقافة القانونية والمجتمعية السودانية حتى يكون السؤال مطروحا من الاساس ؟!
أين هو موقع دارفور بين غرب أفريقيا وسودان الشريط النيلي ؟
بدأ تشكيل الدولة السودانية الحديثة عقب دخول جيش إسماعيل باشا في 1821م وشكل ذلك نهاية الدولة السنارية التي جمعت كل قبائل وسط السودان في تحالف إمتد من 1504م ، ولكن شكل عام 1821م نهاية عهد تحالف دويلات القبائل وبداية رضوخ القبائل لسلطة حكومة مركزية مصرية عثمانية بدأت في سنار ثم انتقلت لود مدني قبل أن تستقر في الخرطوم عند تأسيسها ، ثم جاءت فترة المهدية من 1881م حتى 1898م ليعود النظام المركزي السابق بهيكلية جديدة هي الحكم الثنائي البريطاني المصري.
هذا الزمن الممتد من 1504م حتى 1955م شكل بكل تقلباته وتمظهراته ثقافة إنسان الشريط النيلي وإنتماءاته وشكل قدرة إنسان الشريط النيلي على تحديد الحد الفاصل بين الولاء للقبيلة والولاء للجماعة السياسية والدينية ، ولهذا لم يعد للقبيلة دور ملموس في تشكيل الولاءات التي توزعت بين الأحزاب السياسية والجماعات الدينية فتجد في الأسرة الواحدة من هم شيوعيين ويساريين أو إسلاميين أو أنصار وحزب أمة أو ختمية واتحاديين وهلمجرا.
وفي سودان 56 وما قبله خلال الحكم الثنائي من 1899م حتى 1955م تقولبت ولاءات إنسان الشريط النيلي على أساس القبيلة السياسية والفكرية لا على أساس القبيلة الإثنية ، ولهذا ظلت الصراعات والإنقلابات العسكرية محكومة بالقبيلة السياسية وعمقها الفكري والعقائدي ، وما كان أحد يسأل ولا يهتم بقبيلة عبد الله خليل ولا قبيلة عبود 1958م أو الأزهري أو المحجوب ولا قبيلة النميري 1969م ولا قبيلة البشير 1989م.
ولا أحد يهتم ويسأل كم وزيرا من القبيلة الفلانية وكم واليا من قبيلة كذا وكذا.
ولهذا حين يخرج دارفوري محتجا بسيطرة الشايقية والجعليين ونوعا ما الدناقلة والمحس فهو يمارس بنظرنا هواية اختراع ذرائع التظلم علاوة على الجهل بمدى تلاشي العصبية القبلية وإن كنا لا ننكر وجود عصبيات لها دورها في تزكيات التوظيف ولكنها عصبيات عائلية قد تتشارك فيها عدة قبائل من خلال القرابات والمصاهرات أو عصبيات جغرافية للحلة أو الحي أو الجيرة القديمة.
دارفور نطاق غرب أفريقي داخل سودان 56 !
تم ضم دارفور لحكمدارية السودان أولا في 1874م ثم اندرجت بإنسانها وقبائلها وثقافتها في المهدية من 1881م ومن 1883م بعد شيكان بدأت المهدية ومعها قبائل دارفور تزحف من كردفان نحو الشريط النيلي ، وبعد السيطرة على الخرطوم مالبث المهدي أن توفي بعد 6 أشهر ليخلفه الخليفة عبد الله حتى 1899م.
وحين تبحث وتقارن علاقة شقي السودان وهما دارفور والشريط النيلي بحكومة الخليفة عبد الله إن صح التعبير تجد أن دارفور بولاءاتها القديمة وعصبيات قبائلها أتعبت وأرهقت الخليفة عبد الله بتمرداتها أكثر كثيرا من الشريط النيلي ، وبالرغم من رسوخ ذكرى كتلة المتمة يوم 1 يوليو 1897م فإن دارفور شهدت قبلها كتلات وكتلات ومعارك أشد ضراوة وإنهاكا لجيوش الخليفة عبد الله.
ظلت دارفور داخل سودان 56 سياسيا وجغرافيا ولكنها ظلت تنتمي لغرب أفريقيا بثقافة الولاء للقبيلة والحاكورة بل أكاد أزعم أن الدارفوريين الذين دخلوا للأحزاب السياسية القومية في الشريط النيلي دخلوها متقوقعين ليشكلوا لوبيات داخلها وليستفيدوا من علاقاتها وآلياتها في خدمة أجندة دارفورية غير قومية تخدم القبيلة والحاكورة.
إن الحاكورة من حيث هي علاقة القبيلة بملكية الأرض والقومية من حيث هي تنظيم لملكية الأرض بالتبعية للدولة خطان متوازيان لا يلتقيان ، ولكنك حين تنظر لكل الجماعات السياسية والحزبية والتحالفات الدائمة أو المؤقتة فستجد أن الدارفوريين المنضمين لها كان أكبر همهم حراسة المكاسب والامتيازات الدارفورية التاريخية أو الحديثة.
على ضوء كل ما سبق ، ماذا لدى دولة 60 وظلالها الدارفورية لتقدمه أو تضيفه لدولة 56 ؟!
ما أسهل رفع شعارات الحرية والعدالة والمساواة ودولة المواطنة ، ولكن الثقافة والحمولة التاريخية تفرض نفسها ، فالحاكورة هي أرض تعايش بين قبيلة مالكة وقبيلة مستضافة ولو عاشت في الحاكورة لقرون في دانقتها وبالتالي فإن الحاكورة ليست أرض مواطنة متساوية الفرص وأمامنا ما حدث في النيل الأزرق قبل أشهر معدودة حيث صدر قرار القبائل المالكة للحواكير ومعهم تحالف القبائل المستضافة بطرد قبيلة الهوسا لأنها تخطت أعراف وقوانين ملكية الأرض وهم يعتبرونها في أرض السلطنة الزرقاء من الامتيازات التاريخية الغير قابلة للمساس وخط أحمر.
الختام :
لا توجد في أفريقيا دولة مثالية سواء دولة 56 أو دولة 60 ولكن التجارب أثبتت أن التغيير الذي يأتي بالسلاح سرعان ما يفشل لسبب متكرر وهو أن الحركة المسلحة التي تأتي بالتغيير تعتبر نفسها صاحبة الفضل وبالتالي الأحق بالمكافأة على التضحيات وعادة ما تكون المكافأة احتكارها للمناصب والامتيازات وإعادة انتاج نخبة مترفة وفاسدة.
#كمال_حامد 👓
الصورة : فرانسوا تمبلباي أول رئيس لتشاد 1960م.
خارطة مجموعتي دول 60 المستخدمتين لعملة السيفا (الفرنك الأفريقي)

كمال حامد