رأي ومقالات

نظام الحاكورة الدارفوري … مفاهيم مغلوطة تحكمت في المشهد … (1)

نظام الحاكورة الدارفوري … مفاهيم مغلوطة تحكمت في المشهد … (1)
نظام الحاكورة في دارفور سبب تخلف دارفور ونشوء نظام طبقي طفيلي خانق..
إليكم يا صديقي الفيسبوكي هذه الإضاءات عن نظام الحواكير الدارفوري الذي صدعت به الحركات المتمردة رؤوسنا باعتباره من المقدسات التي لا يجب المساس بها كسبب من أسباب رفع السلاح ، ونحن هنا لا نعلم سوى أنه أرض القبيلة لقلة معرفتنا ومعلوماتنا عن دارفور.
إن مصدر معلوماتنا هنا في هذه الحلقة من كتاب : الفور والأرض , وثائق تمليك ، تحقيق بروفيسور محمد إبراهيم أبو سليم – 2016م و إدارة الحكم الثنائي لدارفور – المبارك الشريف أحمد – 2004م
وفي هذه الحلقة سنقص عليكم يا صديقي ومن مراجع موثوقة كيف أن نظام الحاكورة الدارفوري هو سبب تخلف دارفور وحروبها الأهلية منذ القدم وفي الحلقة التالية رقم (2) سنكشف لكم إن شاء الله تعالى كيف أن الإنجليز خلال سنوات حكمهم لدرافور بعد إسقاط حكم السلطان علي دينار في 1916م وحتى 1956م تركوا دارفور على حالها وكيف أن ما أقعدهم عن تطوير دارفور هو نفسه ما أقعد الحكومات السودانية من 1956م وحتى اليوم.
س : ما هو منشأ لفظ حاكورة ؟
ج : الحاكورة لفظ عربي وجمعها حواكير ، واللفظ الفوراوي المقابل له هو : رو Ro ، وجمعه روتا (Rota) ، وهو يأتي من الحكر ، أي أن يحوز الرجل أرضا ويستغلها دون أن يكون له حق الملكية المطلقة عليها.
إن الفور لم يعرفوا أصلا الملكية المطلقة للأفراد ، لأن هذه الملكية المطلقة كانت للجماعة حتى جعلها السلطان موسى للسلطان.
س : تقصد أن السلطان موسى بن السلطان سليمان سولونق هو من قرر أن تكون ملكية الأرض للسلطان وهو ما يعادل الحكومة اليوم ؟
ج : نعم ، ذلك أن نظام الحكم وقتها لم يكن يعرف هياكلنا المدنية الحكومية بل كان سلطانية مطلقة.
فكان أن صارت كل أراضي السلطنة ملكا للسلطان وما عداه يمتلك امتلاك منفعة ، ولذلك كان وصف الحاكورة لفظا دقيقا في وصف هذه الحالة وهذا طبعا يختلف عن الوضع الحالي الذي أخذ فيه الناس بمفهوم الملكية الخاصة وهو مفهوم دخيل عليهم وعلى أعرافهم.
سياسة السلاطين نحو الأرض
كان السلطان موسى بن السلطان سليمان سولونق أول سلطان من سلاطين الفور يضع سياسة شاملة إزاء الأرض وقد اعتبر كل أراضي السلطنة ملكا خالصا له ، وقد مضى من تلاه من السلاطين على هذه السياسة واعتبروا كل أراضي السلطنة ملكا لهم يتصرفون فيها بالأخذ والعطاء كيفما شاءوا.
س : وما هو الدافع لهذه السياسة القابضة المتحكمة في الأرض ؟
ج : الدافع أو المبرر هو أنه لم تكن لديهم نظام رواتب ولا فصل أول أو ما شابه من أنظمة إدارة الدول اليوم.
إن سياسة إعطاء الحواكير والإقطاعات في دارفور ينبغي أن تؤخذ مع اعتبارين :
الأول : أنه في ظروف غياب العملة لم يكن مفر من مكافأة الأعوان والموالين والمحسوبية عن طريق الأرض ليستفيدوا من إنتاجها بدلا من المرتبات التي تدفعها الدول نقدا.
وكان الفور لا يعرفون نظام المرتبات فلا يخرج السلطان شيئا من خزينته لرجال دولته مقابل خدماتهم أو لتوفير سبل العيش لهم وإنما كان يكافئهم بالأراضي لينتفعوا بغلتها ، وكان لحكام الأقاليم نصيب من أصحاب الحواكير يدفعونه في المواسم عن رضاء ، ولهم نصيب من الغرامات ومما يفرضه العرف.
ويذكر التونسي ذلك فيقول : ( ثم أعلم أن جميع ما ذكر أقطاع من أرباب المناصب لا يعطيهم السلطان راتبا ولا مرتب لهم عنده بل كل منصب له إقطاع يأخذ منها أموالا وما يأخذ من الأموال يشتري به خيلا وسلاحا ودروعا ولبوسا ويفرقها في العساكر)
وللسلطان دخله من حقوق السلطنة فله العشور والفطرة من الحضر والزكاة من البادية وعشور البضائع من التجار ونصيبه من قانون دالي وهو القانون العرفي للفور والضرائب على التجار والحدادين وهدايا الحكام وأصحاب الحواكير والتجار.
والسلطان يصرف من هذا الدخل على بيته وأخصائه وجنوده.
إذن فإن نظام الإقطاع ( الحاكورة) كانت له مبررات تاريخية وكانت هناك ظروف كثيرة ساعدت على وجوده ، فالمركزية المطلقة في نظام الحكم السلطاني في دارفور كان من شأنها أن تجعل السلطة المطلقة في شئون الدولة في يد السلطان ، وقد استتبع ذلك أن تتركز ملكية الأرض في يد السلطان وأن يكون للسلطان حق التصرف على الأراضي.
وكان جمع حقوق السلطان على الرعايا من حقوق شرعية وغيرها يقتضي خلق جهاز إداري يتولى عمليات التحصيل والحفظ والتوزيع ولكن إنشاء مثل هذا الجهاز لم يكن متاحا في ظروف إدارة دارفور زمن السلاطين ، ولذلك كان من الأسهل أن تدار الحقوق أو تجمع عن طريق وكلاء يأخذون نصيبا ويعطون السلطان نصيبا وهم أصحاب الإقطاع (الحواكير).
إذن كان ذلك النظام يقدم حلا مرضيا وسهلا للسلطان إزاء جمع حقوقه، وكان إعطاء الأراضي وسيلة الدولة التي تكافئ بها العاملين في الدولة لأن نظام السلطنة في دارفور لم يعرف نظام المرتبات فمقابل خدمة السلطان يأخذ العامل نصيبه من الأرض.
وكان أصحاب الألقاب والمكانة الاجتماعية والفقراء (شيوخ الطرق الصوفية) والعلماء يأخذون الأرض مقابل الولاء ومقابل المكانة الاجتماعية ، وفي كل الحالات كانت الأرض أداة خلق الولاء وتأليف القلوب.
إجراءات تسليم الأرض لصاحب العطاء السلطاني :
كان تسليم الأرض لصاحب العطاء يتم في مراحل محددة لا يتم إكتمال التملك إلا بها ، وإكتمال هذه المراحل كان ضروريا لإجراء فض المنازعات إذ كان القضاة أو المحكمين ينظرون في إجراءات التملك هل إكتملت أم لا ؟
المراحل ( وبلغة العصر : الدورة المستندية والإجرائية ):
1) يقرر السلطان الرغبة في إقطاع أرض معينة لشخص معين ويخطره بهذه الرغبة.
2)يرسل السلطان من يقف على هذه الأرض ويحدد حدودها عمليا بالمشي حولها. وكان المطلوب حضورهم لإكمال هذه المرحلة هم :
1.موجه السلطان.
2.صاحب العطاء.
3.مندوب عن صاحب الإقليم.
4.وأصحاب الأراضي المجاورة.
وبعد أن يتم تحديد الحدود على الطبيعة يبين موجه السلطان ( مندوب السلطان) ذلك كتابة ثم يرفعه للسلطان.
يطلع السلطان على الحدود ثم يؤيدها إذا كانت موافقة لإرادته.
وهنا لابد أن نذكر أن السلطان قد لا ينظر في الحدود عمليا إكتفاءا بما قام به الموجه (المندوب) ولكن لابد من النص على أنه نظر ووافق لأن إرادة السلطان ضرورية في إقطاع الأرض لما أنه هو مالك الأرض الفعلي والسلطة الوحيدة التي لها حق التصرف فيها.
3)يصدر السلطان وثيقة مكتوب وهي التي تسمى الحجة يقر فيها ما تم ومبينا المراحل الثلاث ومحددا طبيعة العطاء ( الحكر) وشروطه.
4)تنفيذ الحيازة وهي أن يقوم صاحب العطاء بتسلم الأرض ومباشرة حقه المنصوص في الحجة.
وقد بينت الوثائق التي عالجت المنازعات أن الحيازة (رقم 4) شرط ضروري وأن العطاء لا يتم إلا به.
الوضعية التاريخية للمزارع في دارفور :
كان على المزارع بعد أن يجمع محصوله أن يخرج منه حصة معينة وكانت هذه الحصة تتفاوت من جهة إلى أخرى حسبما يجري العرف وتقتضي التقاليد سواء كان في شمال السودان أو في وسطه أو في غربه ، ولكن سنركز على دارفور لأن نظام الحاكورة لا يزال ساريا حتى يومنا هذا.
كانت الزكاة الشرعية من حقوق السلطان وإضافة لذلك كان يخرج حصة إضافية مقابل ما يفرضه العرف والتقاليد ، وعلى ذلك نجد أن الراعي والمزارع كانا واقعين تحت طائلة قانونين هما الشريعة الإسلامية وقانون العرف ( قانون دالي) ، الأول يفرضه دينه والآخر يفرضه مجتمعه لحاكمه ، وكان فوق ذلك يخرج جملة تحت طائلة القسر.
ولقد توافقت هذه الطروف لتضع المزارع (في دارفور) في موقف صعب ، فهو يكدح وينتج ويبذل العرق سخيا / ولكن طرفا ضخما من إنتاجه يذهب لمن لا يشاركه الإنتاج ولا يبذل مثله العرق ، فصاحب الأرض وحاكم الإقليم والسلطان وغيرهم ممن يأخذون يفعلون ذلك دون أن يؤدوا مهمة في الإنتاج.
لقد أضحى المنتجون في المزرعة والغابة والمرعى مهضومي الحقوق تحت طائلة الشريعة والأعراف والقهر وتبعا لذلك كان وضع المنتج الزراعي في هذا المجتمع وضعا سيئا ، وكانت العلية الذين يعيشون على إنتاجه ، أو بالأحق الذين يعيشون عالة عليه ، في وضع اجتماعي أرفع ، وهذا يفسر لنا لماذا كان المزارع وضيع المكانة ولماذا كانت الزراعة متأخرة وبدائية في بلادنا ولماذا كان الناس ينظرون إلى العمل اليدوي على أنه أمر وضيع لا يقوم به إلا من هم من الطبقات الدنية. (أبو سليم ص70)
وإذا كنا قد لاحظنا من قبل الحيف الذي كان واقعا على المزارع من جراء تطبيق أحاكم الشريعة وأحكام العرف والتقاليد معا بحيث يعطي غالب محصوله لغيره من الملاك والحكام والفقرا وكيف كانت الظروف تسحقه سحقا وتجعله يعيش على فقر دائم فإننا نقف هنا على جانب آخر من جوانب الظلم الواقع عليه ، وهي أنه يساق قسرا ليزرع للسلطان ولحاكم الإقليم دون مقابل كما يساق ليزرع للعلماء والفقرا تحت تخدير الشعور الديني أو رهبة من شرهم.
نظام الحواكير خلال حكم السلطان علي دينار الذاتي لدارفور وبعده 1900م إلى 1956م :
سار السلطان علي دينار على ذات السياسة التي انتهجها السلطان موسى في توزيع الأراضي كحواكير لتلك القبائل لضمان ولائها ومساندته في الحكم. وكذلك منحت حواكير لرجال الدين ولها أثر واضح في نشر الإسلام بدارفور، إذا علمنا بأن كل حاكورة تمنح لرجال الدين تلحق بها مسجد ومدرسة لتعليم القرآن الكريم، ونظرًا لأن هذه الحواكير كانت تمنح في أرض خصبة علاوة لرجال الدين ؛ مما مكنهم من الإنفاق بسخاء على طلاب العلم فجذبوا إليهم أعدادًا غفيرة من الطلاب الذين لا يزاولون يطلق عليهم اسم (مهاجرين)
أما إدارة السلطان علي دينار لأقاليم دارفور الأربعة ، فكثيرًا ما كان يتم عن طريق اختيار حكام من نفس الأقاليم لشغل الوظائف المختلفة من الزعماء المحليين ؛ وذلك لمعرفتهم بأحوال المنطقة ؛ لأنهم جزء لا يتجزأ من التركيب الاجتماعي للوسط المحلي. وأن نظام الإدارة يختلف من منطقة لأخرى في تسميات الوظائف الإدارية ، حيث نجد أن الهياكل الإدارية في المناطق العربية تتكون من شيخ الفريق أو مشايخ الفرقان برئاسة شيخ القبيلة ، أما في مناطق القبائل الغير عربية يتجه الهيكل الإداري من الشيخ ثم الدملج ، ويليه الشرتاي ، ثم المقدوم أو الدمنقاوي . وفي دار مساليت يبدأ الوصف الإداري بالشيخ ثم الفرشة ، ثم على قمة الهرم الإداري السلطان. أما القبائل الأخرى التي لم تكن لديها وظائف إدارية كبرى وكانت تعيش داخل حواكير تلك القبائل، فقد كان يتم تمثيلها في وظائف مثل العمد والمشايخ ؛ وذلك حتى يضمن السلطان مشاركتها في الإدارة وولائها له وحسن الطاعة والانقياد ( إدارة الحكم الثنائي لدارفور – المبارك الشريف أحمد – 2004م – ص 66 -67)
أما فيما يتعلق بالأجور فالشاهد أن السلطان (علي دينار) نفسه دخله من حقوق السلطنة فله العشر والفطرة من الحضر، والزكاة من البادية ، وعشور البضائع من التجار، والضرائب على التجار والحدادين ، وهدايا الحكام وأصحاب الحواكير والتجار، وهو يصرف من هذا الدخل على بيته وإخصائه وجنوده ( 3) وأن جميع ما تم ذكرهم من أرباب المناصب لا يعطيهم السلطان راتب؛ بل كل منصب له إقطاع يأخذ منه أموا ً لا، وما يأخذه من الأموال يشتري به خيلا وسلاحًا ودروعًا ولبوسًا لتجهيز عساكره هؤلاء الذين يتولون المناصب كان يمنحهم السلطان أراضي بغرض الاستفادة منها؛ لذا لم يحدد لهم مكافآت مالية ، بل أن السلطان كان يأخذ منهم أموالا كانت تصرف تجاه العسكر. وقد تم في عهد السلطان صك عملة تداول.( محليًا تعرف باسم (رضينا) وهي مصنوعة من قطع النحاس) ( إدارة الحكم الثنائي لدارفور – المبارك الشريف أحمد – 2004م – ص 68)
كان السلطان علي دينار يعمل جاهدًا لفرض سيطرته وسط القبائل بدارفور التي تدين له بالولاء ، كما أنه يبذل جهدًا مقدرًا لفرض هيبة الحكومة البريطانية، لذا قام في ( Ruba) عام 1903 م بتكوين جيش نظامي عرف (بالبرنجية) ، التي تتألف من الروبا وعلى رأس كل وحدة قائد يعرف برأس الميه، بجانب الجند الغير نظاميين وجميعهم لا يتقاضون مرتبًا ، بيد أنه كان يمنح الجنود النظاميين هدايا عينية من الأبقار والضأن بين ( إدارة الحكم الثنائي لدارفور – المبارك الشريف أحمد – 2004م – ص 68)
وبينما تقرأ الكلام أعلاه يا صديقي الفيسبوكي أرجو أن تكون قد لفتت انتباهكم عبارة ( القبائل التي تعيش داخل حواكير تلك القبائل ) وتعال نتساءل عن كم قبيلة اليوم في دارفور لا حواكير لها وكم عدد سكان دارفور من الذين لا حواكير لهم ومكتوب عليهم أن يظلوا أغلبية صامتة تحت وطأة ذلك النظام الذي تجاوزه الزمن ؟
ولم يجعل ( علي دينار ) للقضاة رواتب بل كان لهم من الملك ما يغنيهم عن ذلك، فالقاضي لا يقربه أحد من الجباة ولا يدفع شيئًا لخزينة الدولة( 5). أصبح معلوم أن السلطان علي دينار كان يحكم بالشريعة الإسلامية بجانب الأعراف المحلية من عادات وتقاليد ممثلة في قانون دالي، وهذا ما راعته الحكومة البريطانية في نظامها القضائي الذي كان سائدا في دارفور بعد زوال السلطان علي دينار ، رغم حكمها بالقانون ، إلا أن العرف والتقاليد التي كانت سائدة في مجتمع دارفور آنذاك لهما اعتبار خاص ، ويقدر مسئولو الحكومة البريطانية ذلك كثيرا في تعاملهم مع الأهالي،. وتجلي ذلك بصورة واضحة في تطبيقها للمحاكم الأهلية بدارفور. ( إدارة الحكم الثنائي لدارفور – المبارك الشريف أحمد – 2004م – ص 71)
النظام بعد 1916م حتى 1956م :
بعد قضاء الإدارة البريطانية على السلطان علي دينار ، أطلق مفتشو بريطانيا في دارفور اسم (ناظر القبيلة)، بدلا عن اسم (شيخ القبيلة) ، فأصبح من يتربع على قمة الجهاز الإداري عند القبائل العربية يعرف باسم (ناظر القبيلة)، حيث سارت بريطانيا في إدارتها لدارفور على ذات المنظومة الإدارية التي كانت سائدة إبان فترة علي دينار الذي كان ينوب عنها وممثلا لها في دارفور وتجلى ذلك بصورة واضحة في السياسة التي اتبعتها الحكومة مع الزعامات القبلية في تقسيمها للإدارات الأهلية بدارفور.
بعد إلغاء السلطنة في 1916م وحتى اليوم ، لمن ظلت تؤول حقوق السلطان في الحواكير ؟
كم قبيلة في دارفور ليست لها حاكورة وكم في المائة من عموم الدارفوريين يعانون من وطأة نظام الحواكير ولماذا هم صامتون ؟
سنحاول إن شاء الله تعالى الإجابة على هذه التساؤلات في الحلقة رقم (2)
#كمال_حامد 👓